تحليل سياسات - تقدير موقف

في تعقيدات الصراع السوريّ

تقدير موقف
في تعقيدات الصراع السوريّ
يوسف فخر الدين
مقدّمة:

حتى وقتٍ قريبٍ لم تكن أطراف الصراع السوريّ الذي نعيش فصوله تستسيغ الحديث عن تعقيد الوضع السوريّ، كما لم يعجبها الحديث عن أنها تعيش حرباً أهليّة. في كلا الحالتين جرى ردُّ التوصيفين بروايتين بقيتا ثابتتين غالباً، على الرغم من الأطوار المختلفة التي مرّ بها الصراع؛ فبينما تحدّث الموالون عن مؤامرةٍ دوليّة على نظامهم الذي يطنبون في مدحه، تحدث المعارضون بثباتٍ عن معادلة شعبٍ في مواجهة نظامٍ استبداديّ. والأخيرة برغم صوابيتها، نجحت سلطة الأسد، والمتطرفون، والمتقاتلون بالوكالة، في إضافة ما يهدد بتجاوزها. نحاول في تقدير الموقف الذي بين أيديكم مقاربة بعض جوانب التعقيد السوريّ، إسهاماً في محاولة فهم بعض أسباب سلوك القوى المشكِّلة للمشهد وفهم مسارات الحدث.

الاستثمار في الفوضى
تظهر صورٌ تتداولها صفحات القوى الإسلاميّة المتطرفة على شبكة التواصل الاجتماعي “الفيس بوك” لقتلى من جيش السلطة وميليشياتها، ومنها تلك التي التقطت في معركة الساحل، وما يرافقها من تعليقات مديري الصفحات، حجمَ الاستفزاز المقصود للصراع الطائفيّ. وبعد أشهرٍ من تسيّد الفصائل المتطرفة لمشهد المعارضة المسلحة أصبحت عبئاً ثقيلاً على واقع ومستقبل سوريا بمقدار ما هي سلطة الاستبداد الأسدية. وفي جانبٍ من الصراع الدائر، هناك تكاملٌ موضوعيٌّ بين الطرفين، حيث يحوذ كلٌّ منهما شرعيته من تطرّف الآخر.
هي معادلةٌ أسست لها سلطة الأسد، وجلّ النظم في المنطقة فعلت، حين أسهمت في رجحان كفة احتمالات استخلصت من تحققها أن لا خيارات للشعب إلا اثنين: إما هي أو التطرف والفوضى. وما إن اندلعت الثورة في سوريا حتى قامت السلطة بكلّ ما يلزم لتحويل هذا الشعار إلى واقع بما فيه إطلاق سراح المعتقلين الراديكاليين. وبعد أن أغلقت كلّ الطرق على وحدة المجتمع السوريّ، وللوصول إلى تغييرٍ سلميٍّ، صرنا أمام تواطؤ بينها وبين المتطرفين ضدَّ الثورة واستفادة قصوى لكلٍّ منهما من وجود الآخر. ويشهد على ذلك سلوكهما ضدَّ العدوِّ المشترك من ناشطي وقوى الثورة، ولكن أيضاً السبل التي اختارها المتطرفون الإسلاميّون للتضييق على خصومهم ضمن المكوّن العسكريّ وتركهم في المواجهات وحدهم حتى يقضى عليهم أو يتفككوا وينضم أعضاؤهم لهم، قبل أن تجنح بعض فصائله إلى اعتبار قتاله أولويّةً عمّا عداه.
وإذا كان الحديث عن تعاونٍ مخابراتيٍّ بين الطرفين (نتحدث عن التطرف كطرف حين يدور الحديث عن ما هو محلُّ إجماعٍ لفصائله ) يتلقى الكثير من الاستنكار لما يُعتبر “سذاجة” فيه، إلا أن مجريات الصراع على الأرض لطالما أعطت شواهدَ عن المنفعة المتبادلة بين الطرفين. ويمكن استحضار اهتمامهما بطول زمن الصراع كل لأسبابه، فبينما يراهن طرفٌ على أنها السبيل لاستنزاف الشعب وإعادته لبيت الطاعة، يرى الآخر فيه زمن تطهير المجتمع من العلمانيّة التي تشرّبها عبر عقودٍ من حكم العلمانيّين وجرّ “السنّة” إلى الطريق القويم الذي ما هو إلا عقيدته. وهو دلالةٌ من دلالات تعالي الواقع على التبسيط، ورفضه لثنائيات من شاكلة إما أنها قوى مخابراتيّة أو هي ثورة. بدلاً من ذلك نميل للرأي القائل إن إستراتيجيّة سلطة الاستبداد في مواجهة الثورة، والتداخلات الخارجية، أفسحت المجال للفوضى لاعتبارها إياها حلّها الوحيد قبل أن تضعفها الأخيرة محوّلةً إيّاها إلى طرفٍ ينافس على الهيمنة ولا يحوز إمكانياتها ذاتياً فيتواطأ مع خصومٍ يعتبرهم مناسبين لإثارة الفزع، داخليّاً وخارجيّاً، على أمل أن يفتح الاحتمالات المغلقة أمامه. إضافة لوجود الكثير من الشواهد، منها انكشاف تعاون قادة من المجموعات المسلحة مع أجهزة المخابرات لسلطة الأسد، تبين مرة أخرى أن تجاهل عمل أجهزة المخابرات لا يقلّ سذاجةً عن تفسير كلّ الأحداث بدورها.
وعودة إلى الأهداف المشتركة يؤكد قصف مدينة السويداء ذات المكوّن الدرزي، من قبل جبهة النصرة وهو ما حاول ناشطون نفيه وتحميله لسلطة الأسد، ما ذهبنا إليه؛ فإن صحَّ أن الجبهة قصفت مدينةً سمتها العامة موالاتها، بعد أن بدأت فاعليات مؤثرة فيها التعبير عن رفض إبقائها في قيد خانة الخزان البشري لعسكر السلطة ومن ثمة ضحايا للصراع، فسيكون ذلك تعبيراً نموذجياً عن ضيقها من إمكانية استعادة المجتمع السوريّ حيوية تخرجه من دائرة الصراع الطائفي الذي تساهم في حشره فيه، وإن كانت سلطة الأسد من فعل فللسبب نفسه، ما يظهر اتفاقهما على هدفٍ ليس بالثانوي أبداً. وهو ما حصل مراراً في مدينة السلمية، التي تقطنها الطائفة الإسماعيليّة، التي عرفت مشاركة قطاعٍ واسع من بناتها وأبنائها مبكراً في الثورة، والتي أُلحق الإهمال الإعلاميّ لها بتنفيذ المتطرفين سلسلة تفجيرات قوت شوكة لجان السلطة “الشبيحة” كمعادل مطلوب من قبلهم للخلاص من عبء مشاركتها في الثورة خوفاً من تثقيلها للوطنية والعلمانيّة فيها، في الوقت الذي كان إخراجها من الثورة هماً شاغلاً لأجهزة المخابرات لنفس السبب.
الصراع المسيطَر على حدوده “طنجرة الضغط”
قامت إستراتيجيّة السلطة الأسدية بإطلاق التطرف، ودعم ظروف نموّه، على اعتقادٍ بأنها بهذه الطريقة ستوجد مخرجاً من مأزقها؛ على أمل أن تتحول من نظامٍ مثارٍ عليه إلى طرفٍ من أطراف صراع دموي ليست الأسوأ فيه بعين السوريين، والأهم أن يكون السبب الذي يدفع الغرب للإقرار بها حلاً له ما يسهل إعادة تفويضه لها لحكم البلد. وهو ما تبين أنه معيوب في كونه لم يأخذ بعين الاعتبار التحولات التي جرت على الدور الأمريكيّ الذي يحمّله واضعو الإستراتيجية طوال الوقت وزر المؤامرة التي يرددون أنها تحاك ضدهم، أي إنهم تجاهلوا خطابهم الخاص. لولا ذلك لكانوا انتبهوا لما يجري عند جيرانهم في العراق، حيث لم يعد هناك الكثير من الاهتمام بالصراعات الدامية فيه فور خروج آخر جنديٍّ أمريكيٍّ حين عادت الإدارة الأمريكية إلى “الأساليب القديمة” فصارت تتعامل مع وكلاءَ محليّين متصارعين على السلطة والثروة. وبعدم اكتراثٍ لهذا التحوّل وضعت السلطة في سوريا إستراتيجيتها بناءً على ما كان قد عرف من نظرياتٍ عن “الجيوسياسة السورية”. التي تبين أنه قد جرى تغير جم عليها مع “الأوبامية” (منهج الإدارة الأمريكيّة الحالية لإعادة تموضع للولايات المتحدة، المتخفف من عبء التدخل المباشر في الصراعات الإقليمية) التي أثبتت أنها قادرة على التأقلم طويلاً مع أكثر بكثير من الحرب في سوريا ووجود الجهاديين فيها، طالما أنها تعتقد أنه باستطاعتها احتواء الصراع داخل الأراضي السورية بآلية تشبه “طنجرة الضغط”.
ما يرجح بأن أبرز عقدةٍ في الصراع السوري كامنةٌ في أنه غير قابل للحسم داخلياً، وبنفس الوقت حجم القوى فيه أقل من أن تفيض على محيطه –حتى الآن- فتجبر اللاعبين الإقليميين والدوليين على السعي الحثيث لإنهائه. وهو ما يعاكس خطاباً سياسيّاً للسلطة لطالما تبجح بامتلاكها “أوراق لعب” إقليمية وقدرتها على “إشعال المنطقة”. وهو ما ذهب مع نظامها الذي تهاوى بفعل عوامل منها انتهاء الظروف التي كانت تتيح لسوريا تأدية دورٍ أقليميٍّ أكبر من قدرتها الفعلية، ما أدى إلى تفكك قوى النظام تدريجياً إلى عناصرها المكونة، الأمر الذي تسارعت وتيرته في سياق الصراع فصرنا أمام ميليشيات، بعضها طائفيٌّ وبعضها الآخر عشائريٌّ أو جهويٌّ، لا يمنع تذريرها إلى الآن إلا وحدة حديدية لأجهزة أمن هي في العمق بنيةٌ شديدةُ العصبية الطائفية ووجود حاسم لأجهزة النظام الإيراني. كل ذلك في الوقت الذي يؤدي كبت الأطراف المتصارعة للمدينة، الضعيفة أصلاً، إلى كبح فاعليّتها الموحدة، المشكلة المفترضة للوعي الوطني. وضمن هذا الفضاء يصبح العنف هدفاً بذاته بما يؤدي إليه من ردِّ فعل تمدُّ الأطراف بما تحتاجه من قوى للاستمرار والتمدد. ونشهد كيف أن العنف في زمن الاتصالات الحديثة صورةٌ يتمّ تناقلها بسهولة، ويحرص المتصارعون على أن تكون “مشهداً” متكاملاً في رسالته تضيف له جمل “الإبادة” المرافقة لها ما يمنع أي التباس فيها.
الدولة الرهينة الدولة الحلّ
ولم يبق في هذه الظروف لسلطة الأسد إلا أن تراهن على احتكارها المستمر لبقايا مؤسسة الدولة، ولشرعيتها، التي ظنت أنها ستبقى في عين الغرب أداة الحلّ لضبط الفوضى وإعادة بناء عقدٍ اجتماعيٍّ سوريّ في الوقت الذي تتكامل مع القوى المتطرفة في مواجهة محاولة المعارضة لبناء واحدة أخرى. مع العلم أن تنافسية المعارضة، وغياب هدفٍ وطني موحد، وسوء إدارتها، تتكفل بتأمين عواملَ إضافيةٍ لإفشالها. ولتأمين نجاح هذا الرهان تقوم سلطة الأسد بتدميرٍ بعض الحواضر التي خارج سيطرتها، وتدفع أهلها للخروج منها باتجاه مناطق سيطرتها؛ بهدف تدمير إمكانية المبادرة المجتمعية المتحررة من سيطرتها، وإبقاء الكتلة الأكبر إما خارج الفعل أو رهينة لها بدورها، في الوقت الذي يدمر التطرف الإسلامي ما يتاح رغم الظروف للمجتمع أن يفعله بهذا الصدد. ولكن، وكما فعلت سلطة الأسد مع كل عناصر قوتهم، قامت بخطواتٍ زائدةٍ عن متطلبات هذه المراهنة حينما أفشلت مفاوضات “جنيف2” بطيش، الأمر الذي جعل الإدارة الأمريكية تعيد فتح بعض المسارب المغلقة للسلاح باتجاه المعارضة، وتزيح الخطوطَ الحمر التي رسمتها على الأرض لمقاتليها، وتركز اهتمامها على حكومة المعارضة مهدّدةً باعتمادها “الدولة\الحل” ما يفقد رهينة الأسد المضعفة باضطراد أهميتها.
صراع بمدى مفتوح
من المبكر وضع سيناريوهات لنهاية صراع تدل كل المؤشرات أنه سيمتد طويلاً، ما هو موجود للآن لدى المعارضة أطراف شتى بخريطة تحالفاتٍ مؤقتة بنيت على ضرورة التكتل للتعاضد في وجه التحالف المقابل -الذي يكون في حالات سلطة الأسد، وفي أخرى تحالفات منافسة- بينما يجري بداخل كلِّ كتلةٍ منها صراع على النفوذ. ما ينتج صراعاتٍ متراكبةً يتمّ تنحية الثانوي منها لمصلحة الرئيسي طالما كان حضوره طاغياً، ليعود الثانوي ليأخذ صدارة الاهتمام عندما يتراجع الرئيسي. ونتيجة الهيمنة المتزايدة للإسلام الراديكاليّ، والدور المحوري للمال السياسيّ، ما يجعل الخارج متعدد الأهداف لاعباً في أدق التفاصيل، يتراكب الرئيسي والثانوي ولا يعود واضحاً لكثير من اللاعبين؛ وعلى كلّ الأحوال تنزوي الأهداف الوطنية ويضعف حضورها. وطالما لم يجرِ إجماعٌ من قبل اللاعبين الرئيسيين على بديلٍ يتمّ تركيز الدعم فيه، في الوقت الذي تؤدي شدة عنف سلطة الأسد والسلطات الجديدة إلى تحييد القوى المدنية الديمقراطيّة، تجد محاولات طرفي التطرف لاحتكار وكالة أطراف النزاع الخارجيّ بعض النجاح، وتنمو العدمية السياسية في الوقت نفسه لتكون مناخاً مناسباً لأقصى التطرف “القاعدة”. في الوقت الذي يسعى كلٌّ منهما إلى محاولة إطالة عمر كلِّ تحالفٍ بشرط مركزية كلٍّ منهما بتحالفاته، دون أن يستطيعا إجراء تغيير حتى الآن على طبيعتها المتناقضة التي ترجح أن أي اختلالٍ في ميزان القوى سيفضي إلى إجراء تعديلاتٍ كبيرةٍ عليها. فبالإضافة لسلطة الأسد، والمتطرفين بفصائلهم، هناك جبهاتٌ لقوى معتدلة، والائتلاف الوطني (الذي هو نفسه تحالفٌ اضطراريٌّ لا يمكن توقع فترة استمراره) وهناك فاعليات ثورية تحاول مرّةً بعد أخرى التدخل بالمجريات للتذكير بأهداف الثورة. ويشق كلٌّ من السلطة والمعارضة المحاور الأساسية للتفكك نفسها منها: الصراع على السلطة، الصراع على الثروة، الطائفية. ويحدد تماسك القوى المركزية فيها العوامل نفسها منها: العصبوية الطائفية (هكذا نرى أن ما يفتت الحركة العامة هو نفسه أهمُّ ضامنٍ لوحدة أقصى التطرفين فيها)، العنف المنفلت من أيِّ ضابطٍ، المال السياسيّ، وكالة قوى خارجية تجد في الصراع السوريّ محدداً لمصيرها الذاتي.
وإذا كان الصراع مستمراً فإن فرص فكِّ تعقيدات الواقع السوريّ لمصلحة الشعب على المدى المنظور، ووقف الحرب الأهلية بالتالي، تضيق بمقدار ما تنجح الأطراف المتطرفة (سلطة الاستبداد القديمة وتلك الجديدة) في: استنفاد قوى الثورة ومجتمعها؛ وتمكن الجديدة منها من تكريس سلطتها كأمرٍ واقعٍ، ما يزيد طموحها للتحول إلى دولة. كما تضيق نتيجة فشل محتمل لحكومة المعارضة في أن تتمثل ما أراده السوريون حين ثاروا، وإنتاجها بدل من ذلك آليات حكم، وشخوص، لا فرق بينها وبين تلك التي ثار الناس عليها. ولعل في مثال الوزير في حكومة المعارضة الذي صرح بأنه يمكن شراء السوريين بعشر ليرات، دون أن يتمّ محاسبته وإقالته، تعبيراً واضحاً عن الحكومة التي تصنعها المعارضة.

يمكن الاطلاع، وتنزيل، الورقة أدناه
[gview file=”http://drsc-sy.org/wp-content/uploads/2014/05/تقدير-موقف.pdf”]

يوسف فخر الدين

كاتب وباحث فلسطيني سوري مقيم في بوردو، فرنسا. من مؤسسي مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، مدير المركز.