تحليل سياسات - تقدير موقف

إقليم كردستان العراق .. السياسة تبتلع المجتمع

يشهد إقليم كردستان العراق تنافساً سياسيّاً حادّاً بين القوى الرئيسة، الأمر الذي انعكس على المجتمع في الصميم وشلَّ من فاعليّة القوى المدنيّة وقدرتها على المساهمة في تخفيف التوتر ومنعه من الخروج عن السيطرة، أمام تشعّباتٍ وتحالفاتٍ داخليّةٍ وإقليميّةٍ لا تترك هامشاً لقوى ضغطٍ مدنيّة.
يتوخى تقدير الموقف النظر في الصراع المحتدم في الإقليم، وحالة التوتر، من منظار أحوال المجتمع المدنيِّ الذي يفترض أن يشكّل عاملَ دعمٍ للعمليّة الديمقراطيّة على ضعفها، وآلية مطلبيّة للتطوير على المستوى السياسيِّ والمستويات الأخرى المتصلة بمعيشة الناس اليوميّة.

قلقٌ وتحسّبٌ
“منزل للبيع” هي العبارة الأكثر شيوعاً على جدران بيوت مواطنين في إقليم كردستان العراق هذه الأيام. مع إشراقة شمس كلِّ يومٍ تظهر نسخٌ جديدةٌ من هذه العروض في ظلِّ كسادٍ كبيرٍ في سوق العقارات ونقصٍ كبيرٍ في السيولة الماليّة نتيجة الأزمة الاقتصاديّة التي يمرُّ بها الإقليم. لكن، خلف عروض البيع يكمن مستقبلٌ مجهولٌ يتنبأ مواطنو الإقليم بالاحتمال الأسوأ منه: عودة سنوات الحرب الأهليّة على خلفية عدم التوافق على مسألة التمديد لرئيس الإقليم مسعود بارزاني الذي انتهت ولايته في 19 آب/ أغسطس الماضي.
كلُّ جوانب الحياة في إقليم كردستان باتت مرتبطةً بالوضع السياسيِّ، وتحديداً بمسألة التمديد لبارزاني. هناك بعض الأصوات قدمت تفسيراً مغايراً لفريق العمل، مفاده إنه “تمَّ ربط الوضع بمسألة التمديد”، أي إن الطبقة السياسيّة ربطت حياة سكان الإقليم بالتمديد بشكلٍ قصديٍّ وليس الأمر ارتباطاً ينعكس بشكلٍ موضوعيٍّ على حياتهم.
وكان بارزاني قد انتُخِب رئيساً للإقليم للمرة الأولى 2005 في انتخاباتٍ مباشرة، فيما تمّ انتخابه من قبل البرلمان للمرة الثانية 2009، وقد استوفى مدّته القانونية عام 2013، إلا أن برلمان الإقليم مدّد فترة رئاسته حتى 19 أغسطس 2015، وهو (البارزاني) يسعى للتمديد مرةً أخرى.
ولا يبدو المدنيّون في غالبيتهم حياديّين تجاه الأمر، وهذا ما يزيد المخاوف من وقوع صداماتٍ في حال بقاء الأمور بلا حلٍّ. ولا يخلو الأمر من تباينٍ في التفسير بين الطبقة السياسيّة وبين مواطني الإقليم في المجمل، فالأحزاب الأربعة التي تعارض التمديد غير المشروط لبارزاني (الاتحاد الوطنيّ – حركة التغيير “كوران”- الاتحاد الإسلاميّ – الجماعة الإسلاميّة) تدرك أن هناك نقطةً لن يتمَّ تجاوزها: لا عودة إلى سنوات الحرب الأهلية. لكن غالبية المدنيّين لا يثقون بهذا “الخط الأحمر”، ويتوقعون في أي لحظةٍ اندلاع الحرب. هذا المناخ المتوتر لا ينعكس على مراقبي الوضع في الإقليم من قبل وسائل الإعلام الخارجيّة، إذ إن تأثيرات الأزمة السياسيّة المتداخلة مع تردّي الوضع المعيشيِّ أعمق بكثير ممّا يتمُّ تناوله إعلامياً.
الصراع على السلطة والنفوذ
في آب/ أغسطس الماضي، وقع شجارٌ في سوقٍ في بلدةٍ ذات غالبيةٍ مواليةٍ “للاتحاد الوطنيِّ الكردستانيِّ”، وسبب الشجار خلافٌ على سعر منتجٍ في السوق. أخبرنا لاحقاً بعض أصحاب الدكاكين الذين كانوا يراقبون الشجار عن بعد أنهم أجمعوا على الفور أن عناصر من “الحزب الديمقراطيِّ الكردستانيِّ” بدؤوا بإشعال الفتن. في الفترة ذاتها، حدث شجارٌ مسلّحٌ على قطعة أرضٍ في منطقة “طقطق” الغنية بالنفط، وذهب ضحية الصدام خمسة أشخاص بمن في ذلك جريحان تمَّ قتلهما بإحراق سيارة الإسعاف. وبقيت الناس أيّاماً تتحرّى عن القضية وما إذا كان طرفا الشجار ينتميان سياسياً إلى المعسكرين المتناقضين حول مسألة التمديد لبارزاني. وفي حادثة أخرى، في نهاية تموز/ يوليو، التقط شابٌّ كرديٌّ صورةً في السوق المركزيّ لمدينة “أربيل” تُظهر عدداً من المسلحين بزيٍّ عسكريٍّ في السوق بين المارة. دبَّ الرعب فوراً من أن “الحزب الديمقراطيَّ” قرّر فرض رؤيته أمراً واقعاً بالقوة، وإجبار الأحزاب في البرلمان على التمديد لبارزاني دون تقليص صلاحياته، وتداول الناس شائعاتٍ عن أن هناك انقلاباً وشيكاً على البرلمان والصيغة السائدة لتقاسم السلطة.
في الانتخابات البرلمانية للإقليم سنة 2013 استقطبت حركة التغيير “كوران” بقيادة نوشيروان مصطفى غالبية الأصوات المدنيّة المعارضة لاتفاق تقاسم السلطة الموقع في 2007 بين “الديمقراطيِّ الكردستانيِّ” بقيادة بارزاني، و”الاتحاد الوطنيِّ الكردستانيِّ” بقيادة جلال طالباني، لكن الآمال بدأت تتلاشى مع نجاح “الديمقراطيِّ الكردستانيِّ” بإقناع “كوران” الدخول في الحكومة بعد أن حلَّ ثانياً بنيله 24 مقعداً في البرلمان (111 إجمال المقاعد)، ليصبح بذلك جزءاً من تركيبة السلطة وإن أصر على أنه لم يفقد طابع المعارضة السياسيّة. كما أن “الحركة” لم تنجح في الحدِّ من الفساد الذي كانت مكافحته محور خطابها السياسيّ، ولم تنجح في أن تكون بديلاً سياسياً ممثلاً للمهمّشين في حكومة الإقليم، وقيل لنا في وسط المعارضين أن مرد ذلك أنها حركةٌ مدنيّةٌ سياسيّةٌ (لا تملك ميليشياتٍ مسلّحةً)، وأنه كان نيلها منصب وزارة “البيشمركة” شكلياً، حيث القرار العسكريّ يتمُّ اتخاذه في قيادة الحزبين المسلّحين التابعين لبارزاني وطالباني. وعلى حدِّ تعبير كاتبٍ صحفيٍّ كرديٍّ، فإن منح هذا المنصب لـ”كوران” كان تسويةً بين الحزبين حيث فضّلا أن تكون وزارة “البيشمركة” بلا صلاحيّةٍ بمنحها لـ”كوران” بدلاً من أن يحتكرها أيٌّ من الحزبين المسلّحين.
ومن مظاهر هذا الضعف، وضعف القانون، أنه في 16 آب/ أغسطس الماضي، منعت قوات الشرطة الكردية (الآسايش) دخول نواب حركة “كوران” إلى أربيل قادمين من بلدة كويسنجق، في انعكاسٍ لأزمة الرئاسة. ومؤخراً تمَّ استحداث الحاجز الذي منع أعضاء “كوران” من الدخول، حيث يقع في قرية “ديكلة” الواقعة على طريق “كويسنجق – أربيل”. وبحسب مصدرٍ أمنيٍّ تابعٍ “للاتحاد الوطنيِّ الكردستانيِّ”، فإن الأخير استحدث عدداً من الحواجز الأمنيّة تشكّل في حقيقتها حدوداً غير معلنةٍ بين مناطق نفوذ “الديمقراطيّ الكردستانيّ” و”الاتحاد الوطنيّ الكردستانيّ”. ويعكس إعادة نشر الحواجز الأمنيّة استعداداً علنياً لدى حزب بارزاني بأن البديل عن الرئاسة سيكون العودة إلى نظام الإدارتين المنفصلتين الذي كان سائداً في الإقليم حتى عام 2005.
ومخاوف عودة الصدام تخلق كابوساً لدى سكان الإقليم، ففعلياً ما زالت خطوط الحرب الأهلية السابقة مرسومةً على أرض الواقع. في ليلة 20 آذار/ مارس الماضي، تعرّض موكبٌ “للحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ” في السليمانية قادماً من أربيل إلى اعتداءٍ مسلّحٍ من قبل معارضين، وتمَّ طردهم من المدينة ومنعهم من المشاركة في الاحتفال. مع العلم أن مظاهر التوتر تأخذ طابعاً مناطقياً في الكثير من الأحيان، فالأغلبية الساحقة من المنتمين “للاتحاد الوطنيّ الكردستانيّ” وحركة “كوران” من الناطقين باللهجة “الصورانيّة”، فيما غالبية قيادات حزب بارزاني من الناطقين باللهجة “البادينية” (الكرمانجية)، مع فارق أن حزب بارزاني لديه قاعدةٌ اجتماعيّةٌ لا بأس بها بين الناطقين بـ”الصورانية” في المناطق المحاذية للناطقين بـ”البادينية”، مثل بلدات “شقلاوة” و”صوران” و”راوندوز” و”ديكله”، إضافة إلى “أربيل”.
ويتبادل أطراف الصراع الاتهامات بسعي كلٍّ منهم إلى الانفصال بمناطقه عن الآخر. وبحسب مصادر برلمانيّة كرديّة، فإن بارزاني وجّه رسالةً في 16 نيسان/ أبريل الماضي إلى برلمان الإقليم وحكومته وصف فيها طرفاً كردياً دون أن يسمّيه “بالتيار اللاوطنيِّ والخطير الذي يسعى لإشعال فتيل الحرب الأهليّة وتجزئة الإقليم إلى إدارتين”. ولا يخرج المقصود من هذا الاتهام من دائرة كلٍّ من حزب طالباني وحزب العمال الكردستانيّ. فالأول متّهمٌ بالتحضير لفصل السليمانيّة عن أربيل في حال مضي بارزاني وعائلته قدماً في التحكم بمصير الإقليم، فيما الثاني –”حزب العمال”- وقف وراء مشروع فصل قضاء “سنجار” بإدارةٍ مستقلةٍ عن حكومة الإقليم، وهو الخلاف الذي يعيق تحرير “سنجار” إلى الآن.
لم يظهر “حزب العمال الكردستانيّ” منذ تأسيسه الكثير من الاهتمام بما يجري في الإقليم الكردي من صراعاتٍ وتنافسٍ بين الأحزاب الرئيسية، وهو لم يكن يملك القدرة على الدخول على خط التجاذبات، إلا أن محنة “الإيزيديين” على أيدي تنظيم داعش في آب/ أغسطس 2014 غيّرت من هذه المعادلة، خصوصاً مع انسحاب “البيشمركة” بلا قتال من معظم المناطق التي اصطلح على تسميتها قانونياً بـ”المتنازع عليها” مع الحكومة المركزيّة، وجاء الانسحاب بعد شهرين من سيطرتهم عليها إثر انهيار الجيش العراقي في تلك المناطق. هذا الانسحاب من جانب “البيشمركة” فتح الباب أمام تدخّل “حزب العمال” كأبرز فصيلٍ مسلّحٍ في جبهتي “مخمور” و”سنجار” وبغطاءٍ تامٍّ من الأحزاب الكردية كافةً. وفي حدثٍ ذي دلالاتٍ رمزيّةٍ، فاجأ مسعود بارزاني أنصاره بزيارة مقاتلين من “حزب العمال الكردستانيّ” على جبهة “مخمور” في 13 آب/ أغسطس 2014، حيث بدا رئيس الإقليم ضيفاً لدى مقاتلي “حزب العمال” في غرفةٍ بسيطة.
اليوم، يقف حزب “العمال الكردستانيّ” بقوةٍ في صفِّ القوى الضاغطة على بارزاني. وفي 15 نيسان/ أبريل الماضي، أطلق “دوران كالكان”، وهو من قادة الحزب، تصريحاً رسم مساراً جديداً في العلاقات بين حزبه وحزب بارزاني، ليصبح اصطفافه إلى جانب القوى المعارضة لبارزاني علنياً بتأكيده أن “الدكتاتورية المركزية لن تستطيع البقاء في كردستان ومن غير المقبول أن تكون إدارة الإقليم في “أربيل” فقط، ومن حقِّ “سنجار” و”كركوك” و”كرميان” و”دهوك” و”السليمانية “إدارة نفسها”(1). وللوقوف في وجه هذا التحالف العريض ضدَّ بارزاني يتردد أن الأخير يتقرّب من إيران، خصوصاً بعد تراجع الدعم التركي للإقليم منذ تقدم “داعش” صوب الإقليم العام الماضي.
ضمن هذه البيئة تتراجع الأصوات “غير المسلّحة” إلى الخلف وتختفي وتهاجر، وهذا يشمل المنظمات غير الحكوميّة كافةً التي تعمل تحت عنوان “المجتمع المدنيِّ”. والتعبير نفسه في إقليم كردستان يكاد يكون بطابعٍ خاصٍّ محدّد، فباتت تشمل المجتمع المسيّس المكوَّن من المعارضين لـ”النظام السلطاني” وفق تعبير “كاوه حسن”، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط. (المجتمع المسيّس في كردستان يواجه نظاماً سلطانياً – 18 أغسطس 2015).
في عام 1994 عاش الإقليم حرباً أهليّةً استمرت أربع سنوات، وذهب ضحيتها نحو خمسة آلاف شخصٍ وتهجير عشرات الآلاف في مناطق التماس. قادة تلك الحرب يحتلون اليوم أبرز المواقع القيادية، وبحسب صحفيٍّ لفريق العمل (يعمل في مؤسسةٍ غير حزبيةٍ وتحفّظ على ذكر اسمه)، فإنه لم يبرز أي شخص خارج قيادات الحرب الأهلية نفسها إلا ما ندر، ويمكن اعتبار “مسرور بارزاني”، نجل رئيس الإقليم، و”قباد طالباني”، نجل الرئيس العراقي السابق جلال طالباني، أبرز وجهين جديدين، وكلاهما تنسج حولهما روايات عن مظاهر ترفٍ وبذخٍ خياليّة.
وقال الطالب الجامعي “هريم” للفريق: “لا مكان لأيِّ فرصةٍ خارج دائرة التطبيل للحزبين (بارزاني وطالباني)”. ويأمل ومجموعة من الطلبة في مدينة “السليمانية” خلق بديل من خلال حركة التغيير “كوران”، لكن “القضية أكبر من كوران” على حدِّ تعبير “هريم”.
فرص إحداث خرقٍ ذي طابع مدنيٍّ ديمقراطيٍّ في هذه البيئة السياسيّة
يتركّز الحراك الاجتماعيُّ المدنيُّ في إقليم كردستان بمدينة “السليمانية” بشكل رئيسيٍّ، حيث تنتشر النوادي الاجتماعيّة والفنيّة وصالات الفنون بمختلف أنواعها، كما للمدينة طابعها في تقاليدَ ثقافيّةٍ من خلال المقاهي العامّة، وانتشار أوسع للمكتبات وحركة قراءة نشطةٍ بلغاتٍ متنوّعةٍ مقارنة بـ”دهوك” و”أربيل”. هذا الحراك لم يتحوّل إلى قوةٍ ضاغطة سياسيّاً حتى الآن، ويبقى في إطار مبادراتٍ لمجموعاتٍ صغيرةٍ وجمهور قد لا تجمعه الكثير من الهموم والمصالح المشتركة في الحياة اليوميّة. وترعى السيدة “هيروخان”، زوجة جلال طالباني، معظم المبادرات من هذا النوع، وهي الأكثر تلقياً للإشادة من قبل جمهور هذه الفعاليات.
أما المنظمات غير الحكوميّة ذات النفوذ، فهي تابعةٌ لأحزابٍ سياسيّة، وتكاد تكون برامجها سياسيّةً في العمق. لذا فإن هذه المنظمات نفسها منقسمةٌ في مسألة التمديد لرئاسة الإقليم، ما يعكس سيطرة المال السياسيِّ على إدارة هذه المؤسسات.
على سبيل المثال، في 20 آب / أغسطس الماضي، أعلن “المجلس الأعلى لمنظمات المجتمع المدنيِّ في إقليم كردستان” دعمه لتمديد ولاية بارزاني لعامين إضافيين. وقال رئيس المجلس، عدنان أنور بك، في بيان تُلي باللغتين العربية والكردية إن “منظمات المجتمع المدنيِّ تؤيد التوصل إلى توافقٍ بين الكتل وتدعم لتمديد ولاية رئيس إقليم كردستان”. كانت الصيغة ستكون حياديةً ونوعاً من الضغط الإيجابيِّ المتوافق مع مسمّى “المجتمع المدنيِّ” لو اكتفى بدعمه لتوافق الكتل السياسيّة، من دون إعلان الدعم للتمديد.
ويبلغ عدد المنظمات غير الحكوميّة في الإقليم نحو 1300 مؤسسةٍ، وتشدد حكومة الإقليم في العلن على ضمان استقلاليّة هذه المنظمات.
ويفسر الناشط تيلي صالح مدير “منظمة نوشين لدمقرطة الشباب” تراجعَ منظمات المجتمع المدنيِّ المحلية في عموم إقليم كردستان لاعتمادها على الحكومة في توفير الدعم الماديِّ للقيام بمشاريعها. ودعا في تصريحٍ لإذاعة العراق الحرِّ إلى أن تقوم هذه المنظمات بتوفير الدعم لها من المنظمات العالميّة المانحة عن طريق تكوين شبكةٍ من العلاقات معها، وبذلك يستفيد منها المجتمع أكثر. ويؤكد أن هناك عدداً كبيراً من المنظمات غير الحكوميّة موجودٌ في إقليم كردستان في الوقت الحالي، أغلبها تابعةٌ لأحزابٍ سياسيّةٍ تقوم باستغلالها لصالح مشاريعها السياسيّة والدعاية الانتخابيّة وتجميل نفسها، لذلك فإن أغلب المنظمات لا تستطيع الضغط على الحكومة في سبيل تنفيذ مشاريعها، فالمنظمات مستسلمةٌ للواقع والسلطة”.
ويفاقم أزمة المنظمات غير الحكومية طبيعة الفساد المركّب في الإقليم، وطبيعة التحوّلات في بنية الطبقة الحاكمة، فقد أسفرت التحوّلات السياسيّة والاجتماعيّة الكبرى في الإقليم إلى تحوّل الثوار السابقين إلى رجال أعمالٍ بحسب الباحث “كاوا حسن”، ما أدّى إلى إزالة الحدود الفاصلة بين الطبقتين السياسيّة والاقتصاديّة. ومنذ اشتداد الأزمة الاقتصاديّة قبل عامٍ، بدأت مظاهر تذمّرٍ واسعةٍ داخل القواعد الحزبيّة الدنيا لكلٍّ من “الديمقراطيِّ” و”الاتحاد الوطنيِّ”، بحيث لم يعد كافياً أن يكون الشخص موالياً لبارزاني حتى يستطيع تدبّر معيشته، وكذلك الأمر بالنسبة لقواعد حزب طالباني، وهو ما يوفر بيئةً لتشكيلٍ سياسيٍّ جديدٍ قد يتبلور في حال تمكّنت قوى سياسيّةٌ من استقطاب هذه الشريحة التي تجد نفسها خارج حسابات القوى المهيمنة.

ختاماً
لا تترك هيمنة السياسة على المجتمع أيَّ متنفّسٍ لنشاطٍ لا يصبُّ في خدمة الأحزاب السياسية، وينتشر اليأس بشكل واسعٍ في الإقليم بين الطبقات التي تشعر بأنها مكشوفةٌ ولا تحظى بالحماية القانونيّة ولا تغطية من ميليشيا مسلحة. ومنذ مطلع العام الحالي، بلغ عدد الأكراد العراقيّين الذين هاجروا إلى الدول الأوروبية عشرة آلاف شخصٍ، غالبيتهم من الطبقة الوسطى. وهذا الرقم الذي أعلنه “مكتب إقليم كردستان لمفوضية شؤون اللاجئين” في نهاية آب/ أغسطس أقل من الواقع، مع عدم إغفال أن العدد الأكبر من الراغبين في الهجرة مازالوا يبحثون عن طريقةٍ للخلاص من وضع مفزعٍ كلّما سمعوا صوت إطلاق نارٍ من شخصٍ يجرّب سلاحه، فيخطّون على جدران بيوتهم قبل كلّ شيء عبارة “منزل للبيع”.
إن هذا الإضعاف للمجتمع المدنيِّ في ظلِّ الانقسام الحادِّ، وحقيقة أن جزءاً كبيراً منه تابعٌ لأطراف الانقسام، ومنقسمٌ بدوره، يضعف من المخمدات الاجتماعية لأخطار الاحتراب الأهليِّ الذي لم يصبح بعد من الماضي، بل له أدوات إشعال متوفرة سياسياً واجتماعيّاً.
رغم ذلك فإن الانقسام الحاليَّ يوفر فرصةً لبلورة حراكٍ اجتماعيٍّ يوحّد صوته في تيارٍ مناهضٍ للوضع القائم بأوجهه السياسية والاقتصاديّة والاجتماعيّة كلّها، إلا أن فرص ضياع هذه الفرصة أقرب من تحققها نتيجة حصر أدوات القوة كاملةً في أيدي القوى السياسيّة المهيمنة، إضافة إلى عدم نجاح المنظمات غير الحكوميّة بما تمثله من تطلّعاتٍ نحو ترسيخ القانون والمؤسسات الدستوريّة، في فتح علاقاتٍ مع المؤسسات المشابهة لها بالمنطقة والعالم لضبط السلطة من ابتلاع المجتمع والتحكم بمصيره.

حسين جمّو

كاتب وصحفي كردي سوري، مقيم في دبي. تولد حلب 1983. متخرج من قسم الإعلام في جامعة دمشق. يكتب في الصحافية العربية عن الشؤون الكردية والتركية، ومتابع للقضايا المرتبطة بالحركات الجهادية في سوريا. عمل محرراً في صحيفة الخليج الاماراتية، وحالياً محرر في القسم السياسي في جريدة البيان الاماراتية