مشاركات

إيران وأتباعها (1): الميليشيا الشيعيّة في سورية

فريق عمل الورقة: يوسف فخر الدين، همام الخطيب، غريب ميرزا

أوّلًا: مقدّمة

في عام 2005، وافق المرشد الأعلى للجمهوريّة الإسلاميّة، “آية الله علي خامنئي”، على “رؤية عشرينيّة” لإيران([1])، تحدّد إستراتيجيّتها حتى عام 2025، تضمّنت التغلّب على تركيا والسعودية كأقوى دولتين في الشرق الأوسط من الناحية الاقتصاديّة. كما تسعى إلى جعل إيران القوّة الأولى في الشرق الأوسط وجنوبي وغربي آسيا، اقتصاديًّا وتقنيًّا، وذات ثقلٍ دوليٍّ سياسيًّا. وإذا كانت هذه الخطّة توضّح جوانبَ من إستراتيجيّة النظام الإيرانيّ، فإنّها تتيح لنا مقياسًا لنجاحها أو فشلها، وتقدّمها أو تراجعها؛ حيث نجد أنّها في العام الحاليّ تراجعت اقتصاديًّا، لتحتلَّ المركز الرابع شرق أوسطيًّا (بعد تركيا والسعودية والإمارات)، بعد أن كانت تحتلّ المركز الثالث في عام 2005 (بعد تركيا والسعودية). لكنّها في المقابل تدّعي -بكثير من الضجّة– أنّها تمتلك القرار في أربع عواصمَ عربيّةٍ (بغداد، ودمشق، وصنعاء، وبيروت). وعلى الرغم من أنّ المسؤولين الإيرانيّين –في ادّعاءاتهم هذه- يُلبسون الطارئ والاضطراريّ لبوس الدائم، ويصمتون عن التناقضات بينهم وبين حلفائهم، وأيضًا عن تلك التي بين الحلفاء أنفسهم، التي ما زالت حدّة الصراع تكتم أغلبها من دون أن تستطيع وقف تزايدها. إلّا أنّ كثيرًا من الدلائل تشير إلى أنّنا نشهد مغامرةً إيرانيّةً متطرّفة تهدّد بإضعافٍ شديدٍ لعناصر قوّتها الخارجيّة، التي بنتها عبر عقودٍ، إن لم تستطع إقناع الولايات المتّحدة بأنّها تستطيع خدمتها بها.

وكانت الجارتان الإقليميّتان المهدَّدتان بمفاعيل المغامرة الإيرانيّة (السعودية، وتركيا)، قد وجدتا في القوى العسكريّة الوكيلة لإيران، والمتحالفة معها، وتلك التي نتجت عن الفوضى التي أطلقتها، خطرًا عظيمًا يمتدّ من تهديد مجالهما الإقليميّ، وبعض ممرّاتهما الحيويّة، إلى التهديد الوجوديّ (بالنسبة إلى السعودية تحديدًا). وسنجد كثيرًا ممّا يبرّر الهواجس السعوديّة، ومنها ما يكرّره المسؤولون الإيرانيّون أنّ كلّ ما تفعله إيران يأتي في سياق تصدير “ثورتها الإسلاميّة” إلى دول الإقليم([2]).

هكذا تبدو إيران في لحظةٍ فارقةٍ نتيجة استخدامها الواسع لقوّتها الخارجيّة التي كانت تراكمها بهدوءٍ قبل الربيع العربيّ؛ وهي الآن تستخدم جلّها في حروب الوكالة التي تخوضها، في محاولةٍ لكسب أكثر ما يمكنها من ميزاتٍ إستراتيجيّة، ولإبعاد الأخطار التي تهدّدها. فباتت بذلك، وتحديدًا بعد توقيعها الاتفاق النوويّ مع مفاوضيها الغربيّين، أكثر تهديدًا لمصالح محيطها العربيّ والتركيّ([3]). إلّا أنّ هذه القوّة تواجه تحدّياتٍ جمّة من المتضرّرين منها؛ ففي اليمن استعادت الحكومة الشرعيّة، بمشاركة “مقاومةٍ شعبيّة”، وبدعم “التحالف العربيّ”، مناطقَ واسعةً من البلاد. وفي سورية ما زالت الحرب مستعرة لا تبدو نهاية لها على الرغم من إعلان إيران، أو قادة من أتباعها، النصر مرارًا، حيث لم تستطع وميليشياتها الطائفيّة السيطرة على البلد. كما شهد العراق “انتفاضتين” شعبيّتين (واحدة “سنّيّة”، وانتهت بالقمع وإطلاق رجل إيران في الحكم آنذاك، رئيس الوزراء السابق “نوري المالكي” شبح التطرّف. والأخرى “شيعيّة” تركّزت في بغداد، وانتهت بعد تحرّك “الحشد الشعبيّ” ضدّها؛ حيث عمّت الخشية الشعبيّة من انفلات الصراع المسلّح بين “الحشد الشعبيّ” وقوّات رجل الدين العراقيّ “مقتدى الصدر”، في الوقت الذي كان تمدّد تنظيم الدولة الإسلاميّة “داعش” يشكّل خطرًا داهمًا)، كان من مطالبهما إخراج طهران (النفوذ الإيرانيّ) من العراق. كما شكّلت عودة الولايات المتّحدة، من مدخل مواجهة “داعش”، لتمارس نفوذًا مباشرًا على العراق بعد أن ساد الاعتقاد بأنّ البلد صار مستعمرةً إيرانيّةً، فشلًا نسبيًّا –ولكن ليس بالهيّن- لمخطّط الهيمنة الإيرانيّة. وكذلك الأمر، كان اضطرارها إلى طلب التدخّل العسكريّ الروسيّ في سورية، حينما كان تحالفها في الميدان يتقهقر بشدّة، ومع تقبّلها الشروط الروسيّة، إيذانًا بتراجع سلطتها المطلقة على ما تبقّى من “النظام السوريّ”، والجغرافيا والمجتمع الواقع تحت حكمه.

وأمام هذا التمدّد الإيرانيّ، نفوذًا ووجودًا على الأرض عبر وكلاء، كانت الحكومة التركيّة مهدّدةً بانتصاب سدٍّ سياسيٍّ عسكريٍّ على حدودها يفصلها عن جوارها العربيّ، قد يُحدث تأثيرًا خطرًا في داخلها؛ حيث وجدت نفسها، إن لم تتحرّك عسكريًّا، أمام احتمال قيام “دولة” تابعةٍ لحزب العمّال الكردستانيّ (في واقع الحال ستكون “دولةً” وإن أطلقت على نفسها اسم “حكم ذاتيّ”) الذي تخوض معه معركةً عسكريّةً شرسة داخليًّا، وهو يمتلك علاقاتٍ نشطةً مع إيران والولايات المتّحدة وروسيا وسلطة الأسد؛ ما دفع الحكومة التركيّة إلى التحرّك عسكريًّا عبر تحالف فصائل مسلحة معارضة سوريّة “درع الفرات”، مستفيدةً من تصفية خصومها الأقوياء في الجيش بعد الانقلاب الفاشل، وهم الذين كانوا يعيقون حركتها، ويهدّد وجودهم القويّ بتحوّل أيّ محاولةٍ مشابهة من قبلها إلى فخٍّ لها.

هكذا يتّضح يومًا بعد يومٍ أنّ الحرب بالوكالة في سورية أصبحت ثقبًا أسودَ يجذب المتقاتلين إلى مزيدٍ من التورّط، خشية منهم أن تنعكس خسارتهم فيها سلبًا على مستقبل مصالحهم في المنطقة، وعلى دواخلهم، ويغذّي في الوقت نفسه مطامعهم. وهو ما يطرح مهمّة تتبّع علاقة المركز الإيرانيّ بأدواته السياسيّة – العسكريّة، لتحديد المعضلات الناتجة عن هذه الفاعليّة والتي ستؤثّر في مستقبل سورية. وهذا ما نحاول الإسهام في التصدّي له من خلال أوراقٍ متتاليةٍ، تتكامل مع بعضها.

ثانيًا، الجيوسياسيّة “المكشوفة”

بعد حكم “الملالي” في إيران عام 1979، أصبحنا أمام نظامٍ سياسيٍّ أمنيّ يدفع قطاعاتٍ من السكّان المظلومين في دول المنطقة إلى تمييز أنفسهم طائفيًّا، والانفصال بحركتهم المطلبيّة بشكلٍ مستقلٍّ عن بقيّة السكّان، المظلومين بدورهم، وصولًا إلى صناعة “دول صغرى” بمؤسّساتها التعاضديّة الخاصّة، وبمؤسّساتها العسكريّة الطائفيّة، إن أمكن له ذلك، في الوقت الذي استثمر النظام الإيرانيّ في الصراع العربيّ الإسرائيليّ، ولا سيّما في لبنان وفلسطين. وفي سياق هذا الاستثمار، عمل على تشويه الصراع التحرّريّ ضدَّ الاحتلال الإسرائيليّ، فدعم قوًى إسلاميّة، كان “حزب الله” التابع لولاية الفقيه أكثرها ضررًا، وهو الذي احتكر مقاومة الاحتلال الإسرائيليّ على حساب المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة التي كانت، على العكس منه، تحمل مشروعًا وطنيًّا ديمقراطيًّا موحَّدًا إلى المجتمع اللبنانيّ.

وتمارس إيران نشاطها في دول الجوار العربيّ التي باتت “مكشوفةً” بتزايد منذ سقوط نظام “صدام حسين” في عام 2003، ثمّ الانسحاب الأميركيّ من العراق في عام 2011، ثمّ التفكّك السوريّ الواسع الناتج عن سبل مواجهة النظام السوريّ للثورة الشعبيّة ضدّه، ولجوء “بشار الأسد” إلى طلب حماية النظام الإيرانيّ، ولا سيّما بعد عام 2012. وبعدها سقوط صنعاء بيد الحوثيّين وموالي الرئيس اليمنيّ المخلوع “علي عبد الله صالح” في عام 2014.

وما إن وصلت “الموجة الديمقراطيّة” التي اجتاحت المنطقة إلى سورية، حتى اندفع الحكم الإيرانيّ إلى التدخّل (المتدرّج، وصولًا إلى التدخّل العنيف)، مضغوطًا بعاملين متناقضين: فمن جهةٍ، هناك فزعه من امتداد “الموجة الديمقراطيّة” إلى إيران نفسها، في الوقت الذي لا يزال يعاني فيه من “الثورة الخضراء” التي قمعها بالحديد والنار. ومن جهةٍ أخرى، هناك أطماعه في تحويل الاضطرابات (التي كانت لا تزال احتمالًا ضعيفًا ساعد هو نفسه في تحويلها إلى حقيقةٍ واقعةٍ)، إلى فرصةٍ لمدِّ نفوذه.

وفعلًا عادت إيران، على نحو ما فعلت في العراق، وساهمت في نشوء الفوضى في سورية واليمن على أمل أن تكون فرصتها للسيطرة عليهما. وفي كلّ فاعليّتها، كانت تورّط الشيعة العرب، عبر القوى الطائفيّة التابعة لها، وتستخدمهم وقودًا لحربها على أمل إدراجهم في مشروع ولاية الفقيه وسلخهم عن هويّتهم العربيّة، مستفيدةً من مظلوميّةٍ دينيّةٍ وتاريخيّةٍ واجتماعيّة، منها ما هو واقعيٌّ، ومنها ما هو موجودٌ في الذاكرة الجمعيّة والميثولوجيا، ومنها ما هو تحريضٌ سياسيّ. ولقد ساهمت الظروف غير العادلة التي تعرّض لها الشيعة في هذه البلدان في تذكية الولاء الخارجيّ عند قطاعاتٍ منهم على حساب ولائهم لبلدانهم.

وهكذا سعت إيران لتحويل مشكلة الحكم في الدول العربيّة المجاورة لها إلى مشكلةٍ طائفيّة، بعد أن كانت فاعليّة، وأيديولوجيّات، المعارضات الديمقراطيّة فيها تدفعها باتجاهاتٍ إيجابيّةٍ (بالمقياس الوطنيّ)؛ حيث دفعت إيران إلى الانقسام العمودي المفكّك للدولة والمجتمع، بعد أن كانت الحركات السياسيّة الديمقراطيّة في المنطقة تركّز اهتمامها على الانقسام الأفقيّ الذي يوحِّد كلّ أطياف المجتمع، بغضّ النظر عن الدين أو الجنس. وهي لهذا الهدف تحالفت مع أطرافٍ شتّى من الإسلام السياسيّ العربيّ، وساعدتها لتخرج من دائرة الضعف التي كانت تقيم فيها. وكانت إيران تهدف من هذا السلوك إلى ضمان موطئ قدمٍ دائمٍ في كلٍّ من بلدان المنطقة، وتسعى إلى أن يكون مستقلًّا عن “النظم” الحاكمة، بما فيها تلك التي تحالفها. وقد تبدّت هذه السياسة في سورية (كما في العراق، واليمن، ولبنان)، حيث ركّزت إيران جهدها لتضمن قدرتها المستقلّة عن النظام السوريّ على التفاوض، وتضمن ديمومةً نفوذها في النظام المقبل -عبر سعيها الحثيث إلى تمكين الميليشيا التابعة لها من توسيع رقعة سيطرتها، وشرائها العقارات والسندات السياديّة السوريّة([4]).

وكانت إيران قد دخلت إلى الوضع العربيّ المهلهل عبر وسائلَ مختلفةٍ، أغلبها كان من خلال تجاوز الدول، واستخدام الدين، والاستفادة من المشكلات السياسيّة والاجتماعيّة، وقليل منها عبر الدولة الشرعيّة. ولكن حتى في الحالة الأخيرة، فقد حوّلت إيران أزمات حلفائها إلى فرصٍ للسيطرة عليهم، كما حصل في العراق بعد دولة المحاصصة التي هيمنت عليها، ما ساهم بشكلٍ رئيسٍ في فشل الدولة العراقيّة وتورّطها في حلقة الفساد، وكذلك فعلت مع أزمة حليفها السوريّ. وقام النظام الإيرانيّ بتبرير تدخّله في بلدان المنطقة عبر خطابات ووسائل متناقضة، متلائمة مع مصالحه في كلِّ بلد؛ فهو دافع عمّا سمّاه “شرعيّة الدولة” في سورية، حيث خرجت أغلبية السكّان تطالب بالتغيير والديمقراطيّة، بينما ساند في اليمن تحرّكًا عسكريًّا لتحالف استبداديّ ضدّ حكومةٍ ولدت من الإرادة الشعبيّة، ورفع لواء تحالف الأقليّات في بعض البلدان([5])، بينما ساند استبدادًا طائفيًّا في العراق ([6]).

 1- الميليشيا “الشيعيّة” الأداة الأمضى للنفوذ الإيرانيّ

أ-“ولاية الفقيه” أيديولوجية نفوذ مدمّر

تُعدّ “نظريّة ولاية الفقيه”، عماد “الثورة الإسلاميّة” في إيران؛ فهي الأيديولوجية التي انقلب من خلالها رجال الدين “الملالي” على التيّارات السياسيّة الأخرى واستبدّوا بالسلطة. وبعد ذلك بنى “الملالي” نظامًا سياسيًّا متمحورًا حول هذه النظريّة، وجعلوا منها أيديولوجية “الميليشيا الشيعيّة” التي تبعتهم، والتي ثبت أنّها أداتهم الخارجيّة الأمضى في استتباع الشيعة العرب، وفي قتال خصومهم، أو تهديدهم. فعلى الرغم من أنّها لا تحظى بإجماع “الشيعة”، ولا سيّما العرب منهم، إلّا أنّها كانت ضروريّةً لبناء قوًى سياسيّةٍ يمكن لها أن تخالف عروبة الشيعة العرب، تعمل على الاستفادة من التهميش والقمع السلطويّين حيث وجدا، وتستفيد من فشل المعارضات في تغيير الواقع باتّجاه دولة المساواة والعدل، لتشكيل تيّارٍ طائفيٍّ عنيف، يزيد من سوء الأوضاع، عبر إضافة الصراع الطائفيّ التدميريّ لها.

كما استغلّ النظام الإيرانيّ قضايا المنطقة لمصلحته، وأبرزها الاحتلال الإسرائيليّ وعدوانه المستمرّ على محيطه، وإفشاله عمليّة السلام. ففي حرب تموز/ يوليو 2006 بين حزب الله وإسرائيل، وعلى الرغم من أنّ الجنوب اللبنانيّ خسر بنيته التحتيّة وقدّم كثيرًا من الضحايا، وبات الحزب في صراعٍ مفتوحٍ مع الداخل، إلّا أنّه عَدَّ ما جرى نصرًا إلهيًّا على إسرائيل و”الشيطان الأعظم”. كما تقدّم بالشكر إلى النظام السوريّ ليدعم موقعه في محور المقاومة والممانعة، ويعيد له اعتباره بعد خروج جيشه بشكلٍ مذلٍّ من لبنان. وهذا ما استثمره النظام السوريّ في حديثه عن “المؤامرة الكونيّة” ضدّه، ولا سيّما أنّ سورية هي “الحلقة الذهبيّة في سلسلة محور المقاومة ضدّ إسرائيل” بحسب عبارة علي أكبر ولايتي([7])، وهو استثمارٌ ساهم، لا شكّ، في تعبئة موالي إيران.

وإذ شكّلت الأيديولوجيا سابقة الذكر أحد مصادر قوّة وتمدّد إيران، فإنّ طبيعة قوّة المملكة السعوديّة الخارجيّة صارت –تباعًا- عونًا لها؛ فمن جانبٍ تجد الولايات المتّحدة الأميركيّة أنّ “طبيعة النظام السعوديّ تجعل الرياض شريكًا معقّدًا في القتال ضدّ السلفيّة الجهاديّة”([8])، على اعتبار أنّ السعودية قامت على الأيديولوجية الوهابيّة التي شكّلت أحد آباء السلفيّة الجهاديّة. ومن جانبٍ آخر ساندت السعودية طويلًا النظام العربيّ الرسميّ المثار عليه، والتي هي أحد أركانه، والذي دلّ “الربيع العربيّ” على أنّه فقد شرعيّته. ولنا أن نتخيّل، لهذه الأسباب، حجم الفائدة الإيرانيّة لو لم تمتدَّ الموجة الديمقراطيّة إلى سورية والعراق، وتجد إيران نفسها في مواجهتها تفقد رصيدًا شعبيًّا كبيرًا كانت قد حازته، بشكلٍ رئيسٍ، نتيجة مواجهات “حزب الله” اللبنانيّ مع إسرائيل.

وعلى الرغم من محاولات المملكة السعوديّة منذ اعتداءات 11 أيلول/ سبتمبر، إصلاح المنظومة الفكريّة التي كانت تموّلها (بشكلٍ مباشرٍ أو غير مباشر)، إلّا أنّ هذه المهمّة لا تزال بعيدةً عن الإنجاز. كما أنّ إيجاد بدائل عن الإسلام الجهاديّ لمواجهة التوسّع الإيرانيّ، أمرٌ صار يتعدّى رغبات المملكة بسبب الضعف الشديد للقوى الوطنيّة الديمقراطيّة الناتج عن عوامل ينتمي بعضها إلى نتائج الأحداث الجارية، وبعضها موجود قبلها. فإحدى المعضلات الأساسيّة في الوضع السوريّ، مثلًا، هي أنّ الجهات المعارضة المسيطرة في محيط العاصمة دمشق ووسط وشمال سورية، هي أحرار الشام، وجيش الإسلام، وفتح الشام (جبهة النصرة سابقًا)، وما يشبهها، حيث قضى هؤلاء على كلّ الأطراف التي يمكن وصف أيديولوجيّتها بالوطنيّة. إذًا أصبحت القوى الإسلاميّة هي المسيطرة على المناطق التي تقع خارج نطاق سلطة الأسد وحلفائه، والتي تُراوح بين السلفيّة الجهاديّة العالميّة التي تشكّل تهديدًا مباشرًا لأميركا وأوروبا، والسلفيّة الجهاديّة المحليّة التي لا ترحّب بها القوى الكبرى، على الرغم من محاولتها إجراء تغييراتٍ جمّة لتنال هذا القبول. ولا يبدو في هذا الصدد أنّ إعلان جبهة النصرة فكّ ارتباطها بالقاعدة، ذو جدوى، حيث نجد تحذيرات أميركيّة تصل إلى حدّ اعتبار جبهة النصرة الخطر الأكبر على أميركا، لا “داعش”، لكونها تتداخل في عملها مع قوى عسكريّةٍ أخرى، مثل أحرار الشام، وتؤسّس لبنيةٍ اجتماعيّةٍ عبر الخدمات والقضاء، ما يعني أنّ كلّ القوى العسكريّة الإسلاميّة (السنّيّة)، بات مشكوكًا –غربيًّا- في إصابتها بعدوى السلفيّة الجهاديّة العالميّة، عن طريق جبهة النصرة([9])!

هذا ما أدّى، حتى الآن، إلى قبول الإدارة الأميركيّة -معظم الوقت- فاعليّة الميليشيا التابعة لإيران في سورية، على اعتبار أنّها تحارب أعداء الولايات المتّحدة من فصائل المعارضة السوريّة الجهاديّة. ومن ناحيةٍ أخرى لأنّ وجودها يؤدّي إلى استمرار الصراع المنهِك لجميع الأطراف المتورّطة فيه، ما يتماشى مع الرغبة الأميركيّة. وفي هذا الوضع كانت تركيا والسعودية تتعرّضان لضغطٍ غربيٍّ شديدٍ لتقييد دعمهما لهذه القوى، وهو ما زاد من إرباك هذا التحالف، بينما كانت “الميليشيا الشيعيّة” تحوز على كلِّ حاجاتها ويرافقها سلاح الجوِّ الروسيّ في أغلب الأحيان.

ب- عناصر الإستراتيجيّة الميلشيويّة

على الرغم من السرّية التي تتّبعها إيران تجاه حجم تمويلها لـ “الميليشيا الشيعيّة” التابعة لها، إلّا أنّ حجم هذه القوّات، وحجم المؤسّسات المرتبطة بها، والتي تشكّل أحيانًا دولًا داخل الدول، يشير بوضوحٍ إلى أنّنا أمام تكاليف باهظة حتى بمقاييس إيران النفطيّة؛ وهي في تزايدٍ مستمرٍّ. ولكنّ سبب إصرار إيران على المتابعة على هذا النهج، على الرغم من تكلفته الباهظة، هو جوهريّة “الميليشيا الشيعيّة” بالنسبة إلى إستراتيجيّتها في الشرق الأوسط، لكونها الأداة الرئيسة في مشروع النفوذ العسكريّ، والتمدّد، الإيرانيّ. وقد قامت على الدعائم الأساسيّة التالية (كما بدا في سيرورة تطوّرها في سورية والعراق):

1- تبنّي خطاب المقاومة/ الممانعة.

2- التحوّل إلى قوّةٍ رديفةٍ للجيش النظاميّ، خارج إطار وزارة الدفاع وهيئة الأركان.

3- الـ “تعضّي” في المجتمع.

على الرغم من اختلاف السياقات التي تشكّلت، ومارست فيها الميليشيا الشيعيّة دورها (في لبنان، والعراق، وسورية، واليمن)، إلّا أنّ خطاب المقاومة والممانعة، ومحاربة “الاستكبار”، يظلّ هو الخطاب العامّ الذي سمح لها باستثمار الظروف المختلفة. وهو الخطاب الذي امتاز بـ “راديكاليّته”، ومنها أنّه صنّف “الأعداء” في خانةٍ واحدةٍ، مهما تعدّدت وتضاربت مشاربهم وأفكارهم وأهدافهم، لكنّ الحوادث الجارية بيّنت أنّ هذا الخطاب، الذي استخدمته إيران لتبرِّر من خلاله خلق ميليشياتٍ طائفيّةٍ عسكريّةٍ في المنطقة العربيّة تابعة لها، كان له هدفٌ جوهريٌّ آخر هو التغطية على خصومتها “الراديكاليّة” مع مطالبة شعوب المنطقة بالمشاركة في تقرير مصيرها، وهي الخصومة التي تبيّن أنّ النظام الإيرانيّ لا يتهاون معها، بينما يجري التسوية مع من يطلق عليه نعت “الشيطان الأكبر”، ويقوم بالاستثمار في نطاق العالم الذي يطلق عليه “الاستكبار”([10])، ويبذل جهدًا كبيرًا لتحسين علاقته به، بما في ذلك علاقته مع  إسرائيل[11]. كما عمل النظام الإيرانيّ، في سياق مدِّ نفوذه على “الشيعة العرب”، على “تعليب” عدوٍّ وهميٍّ هو “السنّة”، وحاول بسبلٍ ملتفّةٍ أن يعمّم عليه صفة الإرهاب ليجعل منه عدوًّا متجسّدًا في الواقع، وادّعى أنّ لهذا “الوحش الخرافيّ” الذي رسمه، غاياتٍ وأهدافًا واحدة، على الرغم من استحالة البرهنة على وجود “السنّة” كطائفةٍ ممتدّة، ومن ثمّ استحالة البرهنة على وجود غاياتٍ وأهدافٍ وخطابٍ واحدٍ لها.

ويركّز “الممانعون” جهدهم للبرهنة على أنّ “المقاومين الشيعة” غير طائفيّين. وكان لهذا الخطاب ما يدعمه قبل “الربيع العربيّ” وقبل مشاركة إيران في قتل المطالبين بالحرّيّة، مثل دعم إيران لحركة المقاومة الإسلاميّة الفلسطينيّة “حماس” (وقد حرصت إيران على إبقاء صلةٍ لها مع حماس في قطاع غزّة على الرغم من خلافاتها الشديدة مع قيادة الحركة في الخارج حول القضيّة السوريّة)، وحركة “الجهاد الإسلاميّ” (السنّيتين). أمّا الآن فإنّ هذا الخطاب الدعائيّ لم يعد يقنع كثيرًا من الناس خارج تحالفاتها، إن سلّمنا بأنّه يقنع حلفاءها فعلًا.

العنصر الآخر لهذه الإستراتيجيّة هو تحويل هذه الميليشيا إلى جيشٍ رديفٍ، يبقى خارج هرميّة الأركان ووزارة الدفاع، كمحاولةٍ منها لاستنساخ تجربة الحرس الثوريّ الإيرانيّ، وظهر هذا جليًّا في تجربة الحشد الشعبيّ في العراق؛ حيث لا يحقُّ لوزارة الدفاع محاسبة عناصره، فالجهة الوحيدة المخوّلة بذلك هي رئاسة مجلس الوزراء التي يتبع لها مباشرةً. كما أنّ شروط الانتساب إلى الحشد الشعبيّ مختلفة عن تلك المتّبعة في الجيش النظاميّ. وهو ما منح إيران نفوذًا كبيرًا، إذ قُدّر عدد عناصر الحشد الشعبيّ في منتصف عام 2015، بنحو 120.000. كذلك سعت إيران بشكلٍ حثيثٍ لتشكيل ما يوازي الحشد الشعبيّ في سورية، من خلال الحديث عن تشكيل حزب الله السوريّ([12])، وهو ما يبدو أنّه ما زال يتعثّر إلى الآن.

العنصر الثالث هو “التعضّي”: أي تشكيل الميليشيا التابعة لإيران بشكلٍ يضمن تغذيتها بالعناصر البشريّة بشكلٍ مستمرٍّ من المجتمع الذي انبثقت منه. وهو ما يستوجب انقسامًا طائفيًّا حادًّا، بحيث يجد الشيعة العرب أنفسهم مضطرّين إلى أن يقدّموا انتماءهم الطائفيّ على انتمائهم الوطنيّ، وصولًا إلى سيطرة “ولاية الفقيه” ووكلائها في المنطقة عليهم، كما حصل في لبنان.

وفي سورية عمل حزب الله بشكلٍ فاعلٍ، إضافة إلى عمل إيران بشكلٍ مباشرٍ، على تكريس التبعيّة لإيران في وسط “الشيعة السوريّين” والقضاء على أيّ مقاومةٍ لذلك في صفوفهم. وما إن انطلقت الثورة حتى انخرط كثيرٌ منهم في أجهزة القمع التي أسّستها السلطة (الشبيحة)، قبل أن ينتقل كثير منهم إلى المشاركة في المجهود الحربيّ عبر “الميليشيا الشيعيّة” التي دخلت البلد، وتحديدًا حزب الله، وصولًا إلى إعلان إيران تشكيل ميليشيا خاصّة بهم باسم “حزب الله السوريّ”.

كما اهتمت إيران بالعمل، من خلال القوّة الناعمة، في الوسط المحيط بالبنية الصلبة التي خلقتها في سورية ولبنان (سواء أكان ذلك في الأوساط التي تقتنع بخطاب الممانعة، أو في أوساط الأقليّات التي تقوم بإرهابها عبر إطلاق شبح الإرهاب…)، وذلك عبر وسائل منها خلق “ألفة” تجاه “الميليشيا الشيعيّة”. ففي سورية وجدناها، إضافة إلى الاستمرار في استثمار الخطاب نفسه، تركّز اهتمامها على أوساط الأقليّات الفزعة من “التطرّف السنّيّ”؛ حيث تعمل على اختراق بنية مجتمعاتهم، محاولة أن تستدرجهم إلى مشروعها تدريجيًّا؛ ومنه الزيارات المتكرّرة لرجال دين شيعة إلى السويداء، ولقاؤهم بعض الشخصيّات الدينيّة والزعامات التقليديّة فيها، ومحاولة إيجاد مشتركاتٍ دينيّة تُقارب بين الشيعة والدروز عن طريق تحريف بعض النصوص الدينيّة، أو استغلال مكانة تلك الشخصيّات عند شريحةٍ معيّنةٍ من أبناء المحافظة للتسويق لهذا التقارب. إضافة إلى قيام إيران ببعض المشاريع التنمويّة والتعليميّة في مناطق الأقليّات، كإحداث جامعةٍ في مدينة اللاذقية، وغيرها من الأعمال التي تشير إلى استهداف إيران بنية مجتمع الأقليّات كخطوةٍ في سياق ترويضه للقبول بوجودها على المدى البعيد. كما تقوم بتدريب العناصر التي تتطوّع في الميليشيا الرديفة للنظام (“الشبيحة” أو “الدفاع الوطنيّ”) في الأراضي الإيرانيّة، أو من قبل ضبّاطٍ إيرانيّين في سورية. إضافة إلى ذلك، تعمل إيران على التغلغل الاقتصاديّ، كشراء سنداتٍ سياديّةٍ سوريّة، وغير ذلك من المحاولات لفرض الهيمنة الاقتصاديّة لاحقًا. كما تسعى إلى الاستيطان والتغيير الديموغرافيّ، وهو ما حدث في مدينة الست زينب في ريف دمشق، وفي منطقة القصير، حيث تحوّلت إلى منطقة سيطرة لـ “الميليشيا الشيعية”.

إذًا، فالتغلغل الاقتصاديّ، وخلق “الألفة الدينيّة”، يضاف إليهما شرطٌ مهمٌّ وهو: “استمراريّة الصراع” هي الأسس التي تشكّل قوام “التعضّي”. ويُظهر قول حسن نصر الله في عام (2015)، ما نراه جوهريًّا في “الإستراتيجيّة الميليشيويّة”: “المعادلة الذهبيّة لصنع الانتصار: الشعب والجيش والمقاومة… ونقدّمها لجميع شعوب المنطقة” ([13]). فالمقاومة منفصلةٌ عن الجيش كما حال الحرس الثوريّ، أمّا العدوّ الذي تقاومه هذه “المقاومة”، فيقوم حسن نصر الله بإعادة تحديده بحسب حاجات النفوذ الإيرانيّ؛ ففي السنوات الخمس المنصرمة، تجلّى العدوّ بالمطالبين بالحريّة والخارجين على منظومة الاستبداد، إضافة إلى السعودية وقطر وتركيا.

2 – الانخراط العسكريّ في سورية

انخرطت الميليشيا الشيعيّة في سورية في فتراتٍ مبكرة، بشكلٍ سرّيٍّ بدايةً، ثم بدأت تعلن عن وجودها تدريجيًّا، إلى أن جاءت معركة القصير التي قادها حزب الله اللبنانيّ بشكلٍ علنيٍّ في عام 2013، وفي تلك الفترة، أي في الثلثين الأول والثاني من عام 2013، بلغ تدخّل الميليشيا الشيعيّة في سورية ذروته من حيث العدد والمشاركة في المعارك، وظلّ ثابتًا على ذلك المستوى إلى أن حدث التدخّل الروسيّ في أيلول/ سبتمبر 2015، فبدأت المرحلة الثانية من الانخراط الإيرانيّ في سورية؛ حيث تشير تقارير مختلفة، في تلك الفترة، إلى أنّ إيران أرسلت (15.000) مقاتلٍ إيرانيٍّ (حرس ثوري)، وأفغانيٍّ وعراقيٍّ، إلى سورية. الأمر الذي ترافق مع إعلان “قاسم سليماني” الشهير، بأنّ مفاجأة ستحدث هناك([14])، إلّا أنّ شيئًا نوعيًّا لمصلحة إيران لم يحصل آنذاك، وبدلًا من ذلك قتل الجنرال “حسين همداني” وهو من قادة “فيلق القدس”.

كما تشير تقارير أخرى إلى أنّ إيران أرسلت (700) مستشارٍ من الحرس الثوريّ وفيلق القدس، ثمّ أرسلت عناصر من الحرس الثوريّ يُراوح عددهم بين (2300 و2500)، كما أرسل حزب الله ما بين (4.000 إلى 5.000) مقاتل، بالتزامن مع التدخّل الروسيّ.

وفي شباط/ فبراير 2016، سحبت إيران عناصرَ من سورية بسبب الإنهاك الذي تعرّضوا له، ولا سيّما فيلق القدس، مع الاعتقاد ببقاء المستشارين الـ (700)، وعادت في آذار/ مارس، وأعلنت أنّها أرسلت مستشارين من قوّات المشاة التابعة إلى الجيش النظاميّ إلى سورية([15])، إضافة إلى إرسال عناصر من الحرس الثوريّ والباسيج (التعبئة الشعبيّة). وفي نيسان/ أبريل 2016، أرسلت ما بين (100 و200) ضابط من اللواء (65) قوّات خاصّة، وهو من وحدات الجيش النظاميّ الإيرانيّ، وهي أول مرة ينتشر فيها هذا اللواء خارج الحدود منذ الحرب العراقيّة الإيرانيّة([16]).

وفي الحصيلة، أقرّت إيران بمقتل (340) عنصرًا من الحرس الثوريّ حتى عام 2016، علمًا أنّ تعداد الحرس الثوريّ الإيرانيّ هو (100.000) عنصر، وتعداد الجيش النظاميّ الإيرانيّ هو (350.000)([17]).

ويبقى تقدير عدد الميليشيا الشيعيّة في سورية بدقةٍ مهمّةً صعبةً، لكن “آفي ديشتر”، رئيس لجنة الشؤون الخارجيّة والدفاع في “إسرائيل”، أورد “أنّ هناك (25.000) مقاتلٍ شيعيٍّ في سورية”([18]).

3 – صعوبات تواجه النفوذ الإيرانيّ في سورية

لم تستطع إيران، وميليشياتها، حتى الآن، تجاوز معضلة كونها قوّة احتلالٍ في نظر أغلبيّة الشعب السوريّ. إضافة إلى سعي أطراف في “سلطة الأسد”، محفّزة من روسيا التي تنازع إيران على النفوذ، لاستعادة هيبة النظام المنهار، ما يرشّح احتمال تنامي التنازع ضمن التحالف بين “إرادتين” في المستقبل (نقول ذلك من دون تهويل، فالتحالفات السياسيّة أصلًا لا تعني غياب الخلافات أو التنافس)، ولا سيّما إن اختارت روسيا المضيّ بعمليّة سلامٍ جدّيّة. وهو -وإن كان لا يزال احتمالًا ضعيفًا- ما تشير إليه بعض الحوادث المتفرّقة حتى الآن؛ ففي حزيران/ يونيو 2016، حصل اشتباكٌ بين قوّات النظام وعناصر من حزب الله في جنوبي حلب، استُخدمت الطائرات فيه لقصف مجموعةٍ تابعةٍ لحزب الله([19]). وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، نسبت غارات على مواقع لحزب الله في نبل والزهراء الشيعيّتين إلى سلاح الجوّ الروسيّ (وهو ما رجّحه معظم المتابعين)، وفسّرت على أنّها نوعٌ من الضغط الروسيّ على إيران بسبب خلافٍ حول حلب([20]).

يضاف إلى ذلك ما ورد من شهاداتٍ تفيد بوجود توتّرٍ بين عناصرَ وضبّاط الجيش السوريّ من جهةٍ، وعناصر إيرانيّةٍ من جهةٍ أخرى، ناجمة عن التفوّق الذي تبديه هذه العناصر عليهم، علمًا أنّها لا تخضع أبدًا لأوامر من الجانب السوريّ، بل يحدث العكس([21]).

كذلك علينا أن نأخذ في الحسبان أنّ علاقة “العلويّين” بالوجود الإيرانيّ في سورية و”الميليشيا الشيعيّة”، بقيت في حدود اعتبار هذا التواجد عنصرَ حمايةٍ لها من تهديدٍ تراه في الـ “تطرّف السنّيّ”، من دون وجود ما يشير إلى أنّها -ما عدا حالات فرديّة- معنيّةٌ بالتشيّع الاثني عشري، أو يؤكّد استعدادها للانخراط في مشروع “ولاية الفقيه”. حتى إنّهم بعد التدخّل العسكريّ الروسيّ في سورية، صاروا بأغلبيّتهم يفضّلون الحماية الروسيّة التي تأخذ شكل “الدولة” على الحماية الإيرانيّة التي تأخذ شكل “الميليشيا”، وتحديدًا الميليشيا الشيعيّة”.

كما أنّ إشاعاتٍ عدّة تمّ تناقلها، بالتوازي مع زيادة التدخّل العسكريّ الروسيّ في سورية، عن نية “سلطة الأسد” حلّ الدفاع الوطنيّ، ودمجه بوزارة الدفاع بشكلٍ كاملٍ، وتشكيل كياناتٍ أخرى تابعةٍ مباشرة لوزارة الدفاع، وضمن هيكليّتها النظاميّة. وبدا ذلك متناسبًا مع تعاظم التدخّل العسكريّ الروسيّ، وتلاقي اهتمامهم مع اهتمام أطرافٍ في “سلطة الأسد” ترغب في استعادة زمام السيطرة على “فضاء الفوضى” في “حلفهم”.  وكان قد سبق لهذه الأطراف أن عبّرت عن رغبتها هذه منذ منتصف عام 2015، من خلال تأسيس فصائلَ عسكريّةٍ محليّة، تابعةٍ للجيش، لجذب المطلوبين للخدمة الإلزاميّة الذين يرفضون الخدمة العسكريّة في مناطق بعيدة عن مناطقهم، كما في حال ميليشيا “درع الساحل”([22]). كما أنشأت روسيا “الفيلق الرابع اقتحام”.

ما يبيّن أنّ سعي إيران لإنتاج “ميليشيا شيعيّة” تابعةٍ لها و”متعضّية” في المجتمع السوريّ، على مثال “حزب الله” في لبنان، أو نسخة عن الحرس الثوريّ، لا يزال صعب التحقّق في سورية، على الرغم من سعيها لتثبيت موطئ قدمٍ لها، من خلال التغلغل الاقتصاديّ، وخلق الألفة، ومساعيها لإجراء تغييرٍ ديموغرافيٍّ في بعض المناطق.

مع ذلك، يُفترض عدم التسرّع بالخلوص إلى أنّ هذه الصعوبات ستؤدّي إلى فشلٍ حتميٍّ لمساعي النظام الإيرانيّ في سورية؛ فالقابضون على السلطة في طهران يتعاملون مع نفوذهم في المنطقة على أنّه حزام أمانٍ لا غنى لهم عنه للحفاظ على سلطتهم، وحامل طموحهم الإمبراطوريّ. ولخدمة أهدافهم الجوهريّة هذه، يظهر النظام الإيرانيّ حيويّةً عالية، وقدرة على التأقلم مع المستجدّات، بما فيها من ليونةٍ في التعامل مع روسيا، ومع الولايات المتّحدة، عندما يستطيع أن يمرّر مصالحه من خلال خدمة مصالح أيٍّ منهما. وفي هذا السياق نجد إيران تعود (مباشرة، وعبر “ميليشياتها الشيعية”) إلى التعاون مع الولايات المتّحدة الأميركيّة في العراق لقتال “داعش”، وهو ما يؤدّي إلى تدمير المدن “السنّيّة”، وتطوي صفحة التحالف الثلاثيّ (الذي ضمّ روسيا والحكومة العراقيّة إضافة لها)، وإن إلى حين، الذي قدّمت له في عهد “نوري المالكي”. وها هي تنخرط في تنفيذ الاتّفاق الروسيّ الأميركيّ بخصوص إنهاء الوجود العسكريّ للمعارضة الإسلاميّة المسلّحة في شرقي حلب، وتعمل كلّ ما تستطيع ليكون ذلك عبر إثارة الأحقاد الطائفيّة.

وكلُّ ذلك يصبُّ في مجرى تغذية التطرّف الذي تستثمر فيه إيران؛ فتقدُّم “ميليشيات سلطة الأسد” مع “الميليشيات الشيعيّة” يعني تعاطف الوسط الشعبيّ المعارض مع المتشدّدين الإسلاميّين، ويعني كذلك زيادة فرص إيران لتمديد زمن الحرب في سورية حتى تستطيع حشد المزيد من ميليشياتها، وعائلاتهم، من العراق وبلدان أخرى لتعوّض حقيقة نقص الوجود الشيعيّ السوريّ. ومن ذلك سعي إيران لفتح الطريق البريّ بين إيران والساحل السوريّ (يقاتل “الحشد الشعبيّ” في “تلعفر” العراقيّة لهذا الهدف)، ومعارضتها الشديدة للمعركة التي تخوضها فصائل مسلّحة سوريّة مع “داعش” بغية تحرير مدينة “الباب”؛ كون سيطرتها على المدينة وريفها يقطع هذا الطريق. ومنه وعود إيران المتكرّرة بإرسال “الحشد الشعبيّ” العراقيّ إلى سورية بعد تحقيق النصر على “داعش” في العراق، ومن ثمّ حديث إيران عن سعيها لبناء قواعدَ عسكريّةٍ بحريّةٍ لها في سورية.

ثالثًا: خاتمة

كانت نقاط القوّة الإيرانيّة في المنطقة تصدر عن قدرتها على الاستقطاب الجماهيريّ عن طريق التأكيد على الحقوق المستلبة من قبل الاحتلال الإسرائيليّ وتبنّي “مقاومات” تحمل شعار استرداد تلك الحقوق، إضافة إلى دخولها من باب المظلوميّات (وما أكثرها في منطقتنا، ولا سيّما في إيران نفسها). إلّا أنها بعد الاحتلال الأميركيّ للعراق كشفت بشكل جليٍّ عن مشروعها الهادف إلى بسط نفوذها على المنطقة عبر استتباع الشيعة العرب لها. وللوصول إلى هدفها هذا عمدت إلى تفعيل الصراعات الطائفيّة وتنشيطها وضمان استمراريّتها، عبر تغذية الثنائيّة الضدّية (سنّي/ شيعيّ)، وتغذية المظلوميّات لدى الشيعة التي منها ما هو واقعيٌّ، ومنها ما هو أسطوريّ، وكلّ هذا هدفه مغازلة الشيعة العرب واستدراجهم شيئًا فشيئًا إلى ولاية الفقيه وربطهم بعجلتها، ليجدوا أنفسهم بحكم الأمر الواقع في خضمّ صراع شيعيّ/ سنّيّ. وفي الوقت نفسه تعطي مشروعها شرعيّةً من خلال تبنّيها للمقاومة، كما تبقي الباب مفتوحًا أمام من هم خارج الشريحة المستهدفة (الشيعة العرب)، لتربطهم بمشروعها أو على الأقلّ لتخرجهم من دائرة مقاومة مشروعها عبر تضليلهم وتشتيت أهدافهم وجهدهم. وهذا ما نجحت فيه إيران إلى الآن؛ حيث ساد في خطاب المنطقة تشاحنٌ سنّيّ/ شيعيّ، يغذّي بعضه الآخر، ويراكم مظلوميّاتٍ جديدةً يفرزها الصراع. وتبقى إيران هي المستفيد الأكبر من كلِّ هذا؛ فهي أدخلت كلا الطرفين في الممرّات الإجباريّة التي شقتها وفقًا لإستراتيجيّة “ولاية الفقيه”، واستدرجت الصراع إلى ساحة قوّتها؛ حيث حوّلته –بعد انبثاق الربيع العربي- من صراع شعوب مع الاستبداد إلى صراعٍ “سنّيّ”-“شيعيّ” ، لتكون هي القابضة على مفاتيحه والقوّة المنظّمة والمركزيّة فيه، ولا سيّما أنّها تسيطر على قرار أغلبية المليشيات الشيعيّة في تحديد العدو والتحكم في إدارة السلم والحرب، لتدعيم مواقفها السياسيّة وتحسين شروط تفاوضها في ما بعد.

وفي المقابل نجد أنّ الفضاء الإسلاميّ الفضفاض، والذي أشرنا إلى جهد حشره في رداء طائفيّ تحت عنوان “السنّة”، والذي عادةً ما تُحشر فيه أطرافٌ يُكفّر بعضها الآخر، لا يشكّل هويّةً منسجمةً، متقاربة في فعلها وأفكارها مقارنة بالروح “الأقلويّة” المتماسكة التي تجيد تحشيدها إيران؛ فـ”السنّة” في سورية بلا مركز، ولا إستراتيجيّة، ولا مؤسّسات، أي هم “وهمٌ” وفق التصنيف الطائفيّ؛ فلا وجود لـ “السنّة” كطائفةٍ متجانسة وممتدّة، بل هم بقيّة الأمّة وأكثريّتها ممّن بقوا خارج الـ “تطييف”. وهو ما يجعل الأغلبيّة ضمن هذا الإطار تميل للانجذاب للجوامع الوطنيّة، رافضة حشرها في إطارٍ طائفيّ. الأمر الذي يجعلها ضحية في أيّ حرب طائفيّة، بينما تمكّنها هذه السمات من تأدية دورٍ إيجابيٍّ في حال توفّر جامعٌ وطنيٌّ.

إذًا، عندما يُحشر الصراع في الإطار الطائفيّ، يصبح محسومًا لمصلحة قوًى متبلورةٍ طائفيًّا؛ وذلك لأنّه من غير الممكن أن يحصل مثل هذا النمط من الصراع لو كانت القوى الديمقراطيّة في موقع قوّة وتنظيم يسمح لها بمنعه، فالقوى الأكثر تنظيمًا هي التي تنتصر في الصراعات الكبرى، إضافة إلى أنّ نمط الصراع يحدّد الاستقطابات فيه. وهذا ما يفسّر دفع إيران المنطقة إلى هذا النمط من الصراع، ولا سيّما بعد انبثاق الربيع العربيّ التوّاق إلى قيم الحرّيّة والديمقراطيّة؛ القيم التي تراها إيران “كعب آخيل” بالنسبة إليها، ولا سيّما أنّها لم تتخلّص بعد من مسبّبات “الثورة الخضراء”. وعلى هذا فإنّ الإصرار على خلق خطابٍ “سنّيٍّ” من العدم مقابل الخطاب الشيعيّ، ما هو إلّا تعزيزٌ مستمرّ للنفوذ الإيرانيّ.

كما تنجم عناصر القوّة الإيرانيّة اليوم من ضعف الإطار الوطنيّ الجامع الذي يبديه محيطها العربيّ، بحيث تجذب قطاعات، وتصنع لهم مؤسّسات تصل إلى حدِّ أن تصبح مؤسّسات دولة موازية لدولتهم الوطنيّة، وتعمل على رشوة قطاعاتٍ أخرى عبر مؤسّساتٍ مختلفة، منها ما هو مباشرٌ، ومنها ما هو عبر وكلاء محليّين. وهو ما تعاظم في ظلِّ الصراع الذي افتتحته الموجة الديمقراطيّة (الربيع العربيّ)، والذي ساهمت إيران في تحويله إلى صراعاتٍ عسكريّة، وفوضى، سمحت لها بتحريك القوى التابعة لها للحصول على امتيازات، ثم دفع قطاعاتٍ اجتماعيّة للاحتماء بها.

وإذ يشكّل الصراع المسلّح أحد أسس الهيمنة الإيرانيّة حتى الآن، فإنّ من أهمّ ما يضعفها هو قدرة شعوب المنطقة على تفعيل مشتركاتها الوطنيّة عبر قوى سياسيّةٍ ديمقراطيّةٍ قادرةٍ على الدفع لإنجاز سلامٍ مبنيٍّ على العدل والمشاركة السياسيّة، ومواجهة الطائفيّة وأدوات النفوذ الإيرانيّ الأخرى. وهو ما يحتاج أيضًا إلى برامجَ تنمويّةٍ تجيب عن هموم الناس ومشكلاتهم وطموحاتهم في العيش الكريم القائم على العدل والحرّيّة والديمقراطيّة والكرامة الإنسانيّة، ما سيجعلهم يتنكّرون لكلِّ الأيديولوجيّات الماضويّة التي تفكّكهم وتدفعهم إلى التقاتل وتفتيت بنى مجتمعاتهم.

نشرت في مركز حرمون

1- إيران في أفق عام 2025، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات،

http://www.dohainstitute.org/file/Get/b6bc1858-0a47-48cb-a8d8-2b3ea8232ad7.pdf

[2]– لا يني مسؤولون إيرانيون يعبرون عن أن هذه الأيديولوجيا لا تزال حية ونابضة، مثلًا انظر تصريح نائب القائد العام للحرس الثوري الإيراني منذ أيام: سكاي نيوز عربية، 31 تشرين الأول/ أكتوبر 2016 http://cutt.us/AATS9

[3]– العلاقات الأميركيّة الإيرانيّة: بين الاحتواء والفوضى الخلاقة، فريق عمل، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، http://harmoon.org/archives/2661

[4] – عصر أمراء الحرب وعودة الحمايات والوصايات، فريق عمل، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، 2015 https://goo.gl/LZvf5n .

[5]-. في لبنان، وعلى الرغم من أن الشيعة يشكلون 27 في المئة من السكان فقط (كذلك السنة 27 في المئة)، إلا أن القوة العسكرية التي يملكها حزب الله، وتحالفاته التي بنيت على العداء مع الأغلبية “السنية” في المنطقة، منحت النفوذ الإيراني قيمة مضافة.

[6] – يشكل الشيعة 60 إلى 65 في المئة من السكان العرب، بحسب the world factbook (السي أي إيه). https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/iz.html

[7] – كلمة “علي أكبر ولايتي”، مستشار خامنئي للسياسة الخارجية، وكالة تسنيم الدولية للأنباء، https://goo.gl/O4FPgl .

[8] -many authors, U.S. Grand Strategy. ISW. January 2016 (Report) http://cutt.us/j1MMw

[9] –  راجع مثلًا:why the most dangerous group in Syria isn’t ISIS . CNN, 26 Feb 2016 http://cutt.us/YQS7G

[10]– “يديعوت: إيران تساهم بشركة ألمانية تبيع غوّاصات لإسرائيل”، الجزيرة نت، https://goo.gl/rJeRnS

 

[11]– “السنكروترون” مشروع علمي بلا نظير يقلب موازين الصراعات السياسية في الشرق الأوسط، فرانس 21، https://goo.gl/pp6wiP

[12] – المرجع السابق.

[13] – عصر أمراء الحرب وعودة الحمايات والوصايات، مرجع سابق.

[14] – إيران ترسل 15.000 مقاتل لدعم الأسد في سورية، واشنطن إكسامينر، (2015). (تمت زيارة الموقع آخر مرة في 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016). http://cutt.us/yyu0o

[15] – آلفونة، علي، آيزنشتات، مايكل، الضحايا الإيرانيون في سورية ومنطق التدخل الإستراتيجي، معهد واشنطن، (2016)، (تمت زيارة الموقع آخر مرّة في 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016). http://cutt.us/t5cg

[16] – إيران ترسل قوات خاصة إلى سورية كمستشارين، I24 news، (تقرير)، (2016)، (تمت زيارة الموقع آخر مرة في 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016). http://cutt.us/jR9n4

[17] – الضحايا الإيرانيون في سورية … مرجع سابق.

[18] – سر بقاء الأسد: الميليشيا الشيعية، المركز الصحفي السوري، ترجمة عن واشنطن بوست، (2016)، (تمت زيارة الموقع آخر مرة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016). http://cutt.us/vvXIA

[19] – “قصف بالطيران واتفاق روسي – سوري لتحجيم حزب الله .. فكيف الرد؟” ، موقع جنوبية، (16 حزيران/ يونيو 2016)، (تمت زيارة الموقع آخر مرة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016). http://cutt.us/KQfcO

[20] – الغارات الروسية على حزب الله في نبل والزهراء: نيران غير صديقة، موقع جنوبية، (28 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016)، (تمت زيارة الموقع آخر مرة في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016). http://cutt.us/ZLhnx

[21] – لمزيد من الاطلاع راجع كتاب: عصر أمراء الحرب، مرجع سابق.

كان أحد الجنود المنشقين في عام 2016، قد أخبر أحد الباحثين أن عنصرًا من حزب الله قام بالاعتداء عليه من دون أن يتجرأ أحد على التدخل، كما أن أحد عناصر حزب الله كان قد ضرب ضابطًا سوريًّا، وحين قام الأخير بالرد تلقى عقابًا شديدًا من النظام، ويبدو أنه سرح أو سجن.

[22] – عصر أمراء الحرب، مرجع سابق.