تحليل سياسات - تقدير موقفمشاركات

إيران والمستجدّات السوريّة*

تحثّ كلٌّ من روسيا وإيران وتركيا الخُطا -في ما يبدو- في سباقٍ مع الزمن، لتكريس وقائعَ عصيّةٍ على التغيير، قبل استلام الرئيس الأميركيّ المنتخب، دونالد ترامب، مهمّاته. وعلى الرغم من اختلاف دوافعها، إلّا أنّها وجدت نفسها تبرم اتّفاقًا فيما بينها لمصلحةٍ مشتركةٍ تتجلّى في مواجهة الآثار المضرّة للحرب في سورية وعليها، وقطع الطريق على الولايات المتّحدة الأميركيّة الساعية إلى استمرار استنزافها في الصراع السوريّ، وخلق مشكلاتٍ مستدامةٍ لها. إضافة إلى محاولة كلٍّ منها الحصول على فائدةٍ أكبر، وموقعٍ أفضل من خلال الملفّ السوريّ([1])؛ أي أنّ ما يجمعها هو مخاوفها من الولايات المتّحدة أوّلًا، ومن ثمَّ محاولتها تحويل تقاربها الاضطراريّ إلى آليّة انتزاع مكاسب.

نقارب في ورقتنا هذه زاويةً من هذا المشهد؛ حيث نستعرض مستجدّات السياسة الإيرانيّة فيما يتعلّق بسورية، في محاولةٍ لفهم الاضطرار فيها، وكيف تنحني إرادة النظام الإيرانيّ حتى الآن من دون أن تنكسر، إضافة إلى استشراف خطرها على مستقبل سورية.

مقدّمة

حتى وقتٍ قريبٍ كانت سياسة الرئيس الأميركيّ، باراك أوباما([2])، القاضية باستنزاف جميع المتورّطين في الحرب السوريّة، جاريةً على قدمٍ وساق؛ ففي هذا السياق كان الخلاف قد وصل بين روسيا وتركيا إلى شفير التنازع المسلّح، بعد التصادم الذي وقع على خلفيّة إسقاط تركيا الطائرة الروسيّة. إلّا أنّه بعد ذلك حصل انقلابٌ عسكريٌّ فاشلٌ في تركيا الذي كان، بحسب آراء بعض المحِّللين، أحد أسباب “انعطافة” الرئيس التركيّ، رجب طيب إردوغان، من مواجهة روسيا إلى التحالف معها، لكن هذا التحليل يتجاهل حقيقة أنّ الرجل بدأ مساره الجديد بالاعتذار من روسيا قبل الانقلاب بشهر؛ ما يجعل الأقرب إلى الواقع هو أنّ الانقلاب الذي كان طوال فترة حكم حزب العدالة والتنمية مشروعًا كامنًا لدى “الدولة العميقة”، أتى ليقطع الطريق على هذا التحوّل، فأدّى بفشله إلى دفعه إلى الأمام، وتعرُّض “الدولة العميقة” لضربةٍ قاصمة. وفي جميعِ الأحوال، فقد دخل الأتراك في إثر ذلك الأراضي السوريّة، بعد تردّد شديد، وبمباركةٍ روسيّة توضّحت تباعًا، وصولًا إلى حصار تنظيم (الدولة الإسلاميّة) في مدينة الباب، وهي المحطّة التي تزامنت مع اجتياح التحالف الأسديّ- الإيرانيّ- الروسيّ، بمشاركةٍ حاسمةٍ من (الميليشيات الشيعيّة) والطيران الروسيّ، شرقي حلب، وخروج المسلّحين منها باتّفاقٍ روسيٍّ- تركيٍّ، مصطحبين المدنيّين الذين كانوا تحت حكمهم.
إلّا أنّ ما يهمّنا في نطاق المهمّة التي وضعناها لأنفسنا هو مقاربة “الاضطرار الإيرانيّ” كما ذكرنا، ومنه العناصر الأساسيّة الضاغطة على النظام الإيرانيّ التي تدفعه إلى أكثر من امتصاص غضبه للاختراق العسكريّ التركيّ الذي وصل إلى مدينة الباب مؤخّرًا، وهو من هدّد تركيا مرارًا من التدخّل العسكريّ في سورية، في اتّجاه مراعاة الاندفاعة الروسيّة لوقف إطلاق النار وصناعة عمليّة تسوية.

أوّلًا: درء الأخطار

بدأت مسيرة التغلّب الروسيّة على إيران في سورية، في سياق تحالفهما، حين توجّه قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوريّ الإيرانيّ”، الجنرال قاسم سليماني، إلى روسيا لطلب دعمها العاجل –في تموز/ يوليو 2015، وحدث التدخّل الروسيّ في أيلول/ سبتمبر 2015– لمنع سقوط التحالف العسكريّ الذي يقوده في سورية أمام المعارضة المسلّحة التي كانت قد سيطرت على إدلب وجسر الشغور؛ فقبل ذلك لم يكن هناك شريكٌ لإيران في السيطرة على ما تبقّى من قرار وإرادة النظام الذي ثار الشعب السوريّ عليه.
وما دامت واقعة الطلب الإيرانيّ هذه مثبتة، فإنّ قبول إيران بأيّ مطالب روسيّة قُدّمت حينذاك أمرٌ لا جدال فيه. فحينذاك بدا أنّ إيران تقبل أكثر من شراكة روسيا معها النفوذ في سورية درءًا لخطر أن ينتصر أعداؤها. إلّا أنّ هناك ما كان يعوّل عليه الإيرانيّون لتقليص الحصّة الروسيّة، وهو عدم وجود أحدٍ من خارج سورية غير الميليشيا التابعة لهم، وجنودهم، يرغب في التورّط في القتال إلى جانب بشار الأسد على الأرض، وهو ما دفعهم إلى الظنّ بأنّ الكفّة ترجح لمصلحتهم؛ على أساس رؤيتهم أنّ روسيا غير قادرة على امتلاك الأرض، ما دامت تحصر دورها في القصف الجوّيّ.
وحتى الرغبة الروسيّة في تنظيم ما تبقّى من قوّات الأسد، أو الميليشيا السوريّة الداعمة له، والتي يسهل توقّع أنّها كانت من الشروط التي وضعها الرئيس الروسيّ، فلاديمير بوتين، ليلبّي الطلب الإيرانيّ بالتدخّل العسكريّ، وهي -صراحةً- من شروط استمراره في التدخّل، لم تسبّب في بداية الأمر -أغلب الظنّ- مشكلة لصاحب القرار الإيرانيّ الذي كان يعلم أنّها أصبحت، أو تكاد تصبح، في منزلة “القوّات الرديفة” لقوّاته المهاجمة في المعارك الحاسمة، في انقلابٍ للمعادلة حيث صار الحرس الثوريّ، والميليشيات التابعة له، بما في ذلك السوريّة منها، الطرف العسكريّ المركزيّ، بينما تراجع الجيش ليصبح في منزلة “الرديف”، أي بموقع التابع والأقلّ شأنًا، وهو ما يشكّل جوهر النفوذ الإيرانيّ الذي سعت إيران لتكريسه في المنطقة([3]). فحينذاك كان “جيش” الأسد عاجزًا عن تعويض النقص في القوّة البشريّة لقوّاته العسكريّة بعناصر يضمن ولاءها، تكون قادرةً على وقف تدهور ترابط الوحدة العسكريّة وتلاحمها. ثم إنّ الإيرانيّين كانوا منذ ذلك الحين يسيطرون بصورةٍ مباشرةٍ على بعض أجهزة النظام القديم، ومن أبرزها “المخابرات الجوّيّة” التي أدّت دورًا حاسمًا في تأليف “قوّات الدفاع الوطنيّ” وتدعيم النفوذ الإيرانيّ على هذه الميليشيا ومنها “قوّات النمر” التي قادها العميد سهيل الحسن الذي أصبح ظاهرة فترةً من الزمن، حين قُدّم على أنّه “المُنقذ”، قبل أن يتراجع دوره وصولًا إلى إعادته إلى المخابرات الجوّيّة، وإن كان هذا تحت عنوان ترفيعه. كما أنّ إيران كانت تأمل في أنّ التدخّل الروسيّ إمّا أنّه سيحسم الحرب سريعًا لمصلحتها، أو سيؤدّي إلى قلب معادلاتها بشدّة إلى الدرجة التي تستطيع فيها تحقيق أكبر فائدةٍ ممكنة، وتقليل خسائرها، ومن ثمّ تقليل حجم تنازلاتها.

ثانيًا: التراجع أمام الحليف

لم تأتِ وقائع الحرب موافقةً الهوى الإيرانيّ تمامًا؛ فروسيا لم تُظهر كثيرًا من الكرم، إنّما ربطت خطواتها بإحكام ٍ مع تنفيذ مطالبها، ليست تلك المتعلّقة بإحكام قبضتها بالتدريج على ما تبقّى من مؤسّسات النظام المنهار فحسب، ولاسيّما مؤسّسة الجيش، أو بناء مؤسّساتٍ جديدةٍ تتبع لها، إنّما أيضًا، وفي كلِّ خطوةٍ تقوم بها، من خلال تنفيذ الاتّفاقات التي عقدتها مع إسرائيل، وتنفيذ اتّفاقاتها مع الإدارة الأميركيّة عندما تجد في ذلك فائدة لها.
وفي هذا السياق، وسعيًا من روسيا لمدِّ نفوذها عبر تنظيم “الميليشيا العسكريّة” تحت قيادة “جيش الأسد” الذي لها الكلمة العليا فيه، أتى إنشاء “الفيلق الرابع– اقتحام”، ثمّ الإعلان مؤخّرًا عن تأليف “الفيلق الخامس– اقتحام”، والدعوة الحثيثة إلى الالتحاق به، مشفوعة برواتبَ وتعويضاتٍ ماليّةٍ عالية، ما يساهم في تقليص النفوذ الإيرانيّ حين يضعف أمراء الحرب، ويضع القوّات غير النظاميّة تحت قيادة الجيش، وإن حاولت إيران مدَّ يدها داخل أيٍّ من هذه التشكيلات الجديدة.
ووجدت إيران نفسها هذه المرّة، مقارنةً بتجربتها العراقيّة بعد صدام حسين ([4])، لا تستطيع أن تدير حربًا بالوكالة ضدّ روسيا لتأخذ من خلالها ما عجزت عن أخذه بوسائلَ أخرى، كما أدارت حينذاك حربًا بالوكالة ضدَّ الولايات المتّحدة، وحتى إن افترضنا أنّ هناك تنظيماتٍ جهاديّةً متطرّفةً جاهزة لأن توكل إليها هذه المهمّة؛ إضافة إلى أنّ إيران غير قادرةٍ بعد على فكِّ التحالف مع روسيا، فإنّ صمتَ الولايات المتّحدة عنها آنذاك كان ناتجًا عن كثرة الأعداء الذين وجدت أميركا نفسها تواجههم في ورطتها العراقيّة؛ بينما ستجد روسيا نفسها في موقع “المنقذ” المدعوم من شعوب المنطقة قبل دولها إن ضربت على يد الإيرانيّ، وليس هذا فحسب، بل إنّ هناك ردّات فعلٍ مبالغًا فيها لقطاع من السوريّين على الخطوات الروسيّة الأخيرة عبّرت عن رأيها بأنّ روسيا هي التي يمكنها أن تنقذهم من إيران وميليشياتها، وهو القول الذي لا بدّ من أنّه سيسعد “الإنتلجنسيا” الروسيّة التي ترفض سياسة اليمين القوميّ، ووزارة الدفاع وأجهزتها، التي دافعت عن فكرة قيادة روسيا لـ “تحالف الأقليّات”([5]) ومنه إيران.
وما كان في إمكان الدولة المحاصرة “إيران” أن تُنازع بشدّةٍ حليفها القوي في الحرب السوريّة الذي استدعته لينقذها، تحديدًا عندما تبيّن لها أنّ مراهنتها على الاستفادة من الخلاف الروسيّ- الأميركيّ على سورية لم تُجدِ نفعًا. كما أنّ بوتين، فرض سرعةً متوسطةً للحرب تسمح له بأن يُزيّن كلَّ خطوةٍ فيها، ويستثمرها بابتزاز شركائه كما خصومه. كما استطاع أن يمنع إيران من أن تفرض عليه سرعة الخطوات التي تناسبها، والجبهات التي تفضّلها، حتى إنّه ترك مقاتليها من دون غطاءٍ جوّيٍّ ليُقتلوا حين حاولت فعل ذلك. ولم يتوانَ الطيران الروسيّ عن ضرب حزب الله، وميليشيات شيعيّة أخرى، عندما فعلوا ما لا يُرضي الكرملين.

ثالثًا: الخوف من العدوّ

ولنا أن نتذكّر في هذا المقام أنّ الخوفَ من الولايات المتّحدة كان العامل الحاسم الذي دفع إيران إلى التحالف مع روسيا التي تتنافس وإيّاها في عدّة مجالاتٍ جيوسياسيّة. ويظهر هذا جليًّا في طلبها النجدة الروسيّة لقوّات تحالفها البريّة في سورية، فهي عاجزةٌ عن إشراك طيرانها في حربها السوريّة لأسبابٍ عدّة منها: ضعف إمكانيّاته، والخوف من أن يتمَّ سحقه من جانب الولايات المتّحدة وإسرائيل. ونحن شهدنا منعًا إسرائيليًّا لما هو أقلّ من هيمنة الطيران الإيرانيّ على الأجواء السوريّة، حيث قصف الطيران الإسرائيليّ ضبّاطًا إيرانيّين برتبٍ رفيعة، وقادة من “حزب الله”، كلّما تراءى لتل أبيب أنّهم تجاوزوا، أو كادوا يتجاوزون، الخطّ الأحمر الذي اتّفقت مع روسيا عليه، والذي يسمح لهم بالقتال برًّا في سورية لنصرة النظام على ألّا يشكّلوا ما يشتبه بأنّه شبكاتٌ لمقاومتها، أو يتحوّلوا إلى حضورٍ عسكريٍّ مقلقٍ لها. ولا نبالغ إن قلنا: إنّ هذه الضربات حينها كشفت مستوى الاتّفاق والتنسيق بين روسيا وإسرائيل، ومن ثمَّ كشفت جانبًا من مشاركة روسيا، بعد تدخّلها العسكريّ، بضبط النشاط العسكريّ لإيران وأتباعها في سورية.
إلّا أنّ حكّام إيران في الوقت الذي استنجدوا فيه بالروس لإنقاذهم في سورية، بنوا كثيرًا من الآمال على الوصول إلى اتّفاقٍ نوويٍّ مع الولايات المتحدة لتحسين شروط تحالفهم مع روسيا، مستفيدين من “السماحيات” التي منحها لهم الرئيس الأميركيّ، باراك أوباما، لتحقيقه. كما اضطرّوا إلى قبول عودة الولايات المتّحدة عسكريًّا إلى العراق، تحت ضغط عجزهم عن حلِّ مشكلاته التي كانت تدخّلاتهم سببًا رئيسًا من أسبابها، على أمل أن تكون أيضًا عاملًا مساعدًا في ردم الهوّة معها. إلّا أنّ فوز رجل الأعمال اليمينيّ المتطرّف، دونالد ترامب، في الانتخابات الأخيرة[6]، وهو الرافض للاتّفاق النوويّ الذي عقدته “إدارة أوباما” مع الحكومة الإيرانيّة، والداعي لإضعافها، قلّص بشدّةٍ مجال المناورة أمام إيران مع حليفها الروسيّ، حين هدّد بإنهاء حلمها في أن تقبل الولايات المتّحدة مشاركتها في القضاء على “الإرهاب” الذي شاركت في إطلاقه، وإخماد النار في سورية التي أدّت دورًا محوريًّا في إشعالها، وليس هذا فحسب، بل إنّ هذا الفوز هدّد بإعادتها إلى المربّع الحرج الذي كانت فيه إبّان حكم “جورج بوش الابن”، حينما عملت على مسارين متداخلين، وإن ظهرا متناقضين، فمن جهةٍ سخّرت جزءًا من طاقاتها لخدمة الولايات المتّحدة في ملفّاتٍ عدّة، ومن جهةٍ أخرى سخّرت جزءًا من طاقتها في تأليف قوى تابعةٍ لها، ودعم أخرى حليفةٍ لها حيث استطاعت، في المنطقة والعالم، لتكون أداة تهديدٍ للولايات المتّحدة وحلفائها، للخروج من ذلك المربّع.

رابعًا: تقليل الخسائر وتعظيم المكاسب

ولكلِّ ما سبق، تتعامل إيران، حتى الآن، بسياسة ضبط النفس مع الخطوات الروسيّة المنفردة، بما فيها الاتّفاق مع تركيا على وقف إطلاق النار في سورية (29 كانون الأول/ ديسمبر 2016، في حين أنّ “بيان” موسكو الذي ضمّ الثلاثي إيران وتركيا وروسيا وقّع في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2016)؛ وهو الاتّفاق الذي تلا إخلاء شرقي حلب من المعارضة المسلّحة ومعظم المدنيّين، والذي أدّى إلى دخول قوّاتٍ من الشرطة العسكريّة الروسيّة إلى هذه الأحياء، ليكون هذا مؤشّرًا قويًّا إلى رغبة روسيا في ضبط القوّة العسكريّة في حلفها بما فيها “الميليشيا الشيعيّة”. وكان السياق الروسيّ في هذا المنحى قد خالف الرغبة الإيرانيّة باستكمال “الانتصار” الذي تحقّق باجتياح شرقي حلب بالتوجّه إلى إدلب في الغرب أو درعا في الجنوب. فبعد أن أصبح واضحًا -على نطاقٍ واسعٍ- أنّ بوتين، لن يُمسك بيدها لإيصالها إلى نصرٍ مستحيلٍ في الوضع الراهن، بل إنّ أكثر ما يمكن أن يفعله معها حاليًّا هو سحبها في اتّجاه تسويةٍ فيها بعض الفوائد لها، ها هي تحرص على أن تستفيد ممّا هو متوافر، وتبحث عن سبل تعزيزه.
فإيران، وإن فضّلت على الدوام استكمال الحرب لتكريس نفوذها من دون تراجع، لن تواجه علنًا الاندفاعة الروسيّة للاستفادة من اتّفاقها مع تركيا (وما أتاحه ذلك لروسيا من انتصارٍ في حلب، ووقف لإطلاق نار بعده، والاتفاق على إطلاق مفاوضات برعايتها ستكون، حتى ضمن وصف قرار مجلس الأمن رقم 2336 لها بأنها “جزءٌ مهمٌّ من العمليّة السياسيّة التي تقودها سورية، وخطوة مهمّة يتمّ القيام بها قبل استئناف المفاوضات برعاية الأمم المتّحدة في جنيف في الثامن من شباط/ فبراير 2017”([7])، فرصةً لا تعوّض لتكريس نفسها لاعبًا دوليًّا، وتكريس نفوذها في سورية، وتحاشي تحوّل سورية إلى مستنقعٍ جديدٍ لها)، وستحرص بدلًا من ذلك على حجز مقعدٍ لها في المفاوضات، وتركيز اهتمامها على المحافظة على مكتسباتها على الأرض لتحسين شروطها، وقضم ما تعدّه مناطقَ إستراتيجيّة، بشرط ألّا يتطلّب ذلك مساعدةً روسيّة يصعب الحصول عليها، ما يهدّد بخسارتها كما حصل سابقًا في مناطق عدّة. ونجد في محاولات حزب الله، بمشاركة قوّاتٍ من جيش الأسد رديفة له، لاجتياح “وادي بردى” في ريف دمشق، وباستخدام حجّة وجود فتح الشام (جبهة النصرة)، مثالًا نرجّح أن يتكرّر. فهناك قوّاتٌ عسكريّة معارضة محاصرة، تستطيع إيران الاستفراد بها.
ولا شك أنّ “الميليشيات الشيعيّة” ستكون أداة إيران لتحقيق ما سبق، ولهذا ستدافع عنها بشراسة؛ وفي هذا السياق صدرت ردّة فعلٍ هجوميّة تجاه تركيا على لسان وزير الدفاع الإيرانيّ، حسن دهقان، ردًّا على تصريحات وزير الخارجيّة التركيّ، مولود جاويش أوغلو، التي دعا فيها إلى أن يشمل وقف إطلاق النار في سورية حزب الله، وأن يجري وقف الدعم له، حيث قال دهقان في حوارٍ مع قناة “روسيا اليوم” الفضائيّة (نُشرت على موقعها يوم الخميس 27 كانون الأول/ ديسمبر 2016): “أعتقد أنّ على الأتراك الإجابة عن سؤالٍ مهمٍّ قبل أن يكون لديهم طلبٌ من هذا القبيل، هل كان دخولهم إلى الأراضي السوريّة بطلبٍ من الحكومة السوريّة؟ أم كان بقرارٍ أحاديٍّ من جانبهم؟ إذا كان بطلبٍ من الحكومة السوريّة، فيجب أن يخرجوا من هناك فورَ طلب الحكومة السوريّة، في ما عدا ذلك، فهم معتدون، ولا يمكن للمعتدي أن يقرّر نيابةً عن الآخرين”([8]). وفي هذا التصريح نرى تهديدًا لتركيا بالعودة إلى المربّع الذي سبق التفاهمات التركيّة-الروسيّة التي سمحت للجيش التركيّ بالتوغّل حتى مدينة الباب، إن قاربت سياسيًّا أهمّ عناصر قوّة إيران في الصراع السوريّ وعموم المنطقة. وزد على ذلك أنّ علي أكبر ولايتي، المستشار الأوّل للمرشد الإيرانيّ علي خامنئي، يذهب إلى حدَّ وصف من يطالب بإخراج حزب الله من سورية بـ”العدوّ”، وهو ما ورد في تصريح له في مؤتمرٍ صحافيٍّ في طهران جمعه ونائب الرئيس العراقيّ نوري المالكي (في 3 كانون الثاني/ يناير 2017) حيث قال: إنّ “خروج حزب الله من سورية، بعد اتّفاق وقف إطلاق النار، دعاية الأعداء”([9]).
كما أنّ إيران ستستمرُّ في التركيز على صنع عملاء لها على جميع الصعد، وداخل المتبقّي من مؤسّسات الدولة. وهي لن تستسلم لفشلها في إنشاء طائفةٍ سياسيّةٍ علويّةٍ تابعةٍ لها، وبعد فشل ميليشيا “درع الساحل”، التي أرادتها علويّة، وميليشيا “حزب الله السوريّ”، التي أرادتها شيعيّة-علويّة، بل ستحاول دومًا العمل على هذا الملفِّ.

خلاصة وتوصيات

إذًا اضطُرّت إيران إلى قبول التلاقي الروسيّ التركيّ الذي أدّى إلى خروج المعارضة من شرقي حلب، وإلى وقف إطلاق نارٍ، فهناك ما يؤشّر إلى أنّها تعمل على تحويله إلى حرب استنزافٍ لمصلحتها، وإلى الاتّفاق على إطلاق عمليّة مفاوضات في “أستانة” عاصمة كازخستان، وهي تجتهد فيما يتعلّق بالمفاوضات في جمع عناصر قوّتها، وتطويرها، لتحويلها إلى فرصةٍ لتكريس نفوذها؛ فهي لن تتراجع خطوةً واحدةً عن طموحها الإقليميّ من دون أن يُفرض عليها التراجع، ما عدا ذلك ستُعيد “تموضع” قوّاتها ومصادر قوتها في سورية، وستحميها بكلّ طاقتها، كونها الضمانة الرئيسة لحصولها على ما تريده، بل هي ضمانة سطوتها على نواحٍ أخرى في الواقع السوريّ بما فيه نفوذها على ما تبقّى من النظام.
فإضافة إلى الاهتمام بالاحتفاظ بما سبق أن سيطرت عليه من إرادة بعض أطراف النظام المنهار، ستستمرُّ إيران في استخدام سياستها المعهودة فيما يتعلّق بميليشياتها، وسعيها لـ “تعضيتها” ضمن المجتمع السوريّ، مع ما يحتاجه ذلك من استمرارها في الدفع تجاه مزيدٍ من تشويه الصراع وحشره في الطائفيّة. كما أنها ستظل تسعى للاستفادة من غياب الإطار الوطنيّ السوريّ الجامع في إطار سعيها لجذب قطاعاتٍ اجتماعيّة، وتجتهد في محاولة رشوة قطاعاتٍ أخرى عبر مؤسّساتٍ مختلفة، منها ما هو مباشرٌ، ومنها ما هو عبر وكلاء محليّين. وطالما أنّه لم يتحقّق احتكار السلطة من جانب دولةٍ ديمقراطيّةٍ يجد فيها السوريّون جميعهم مصلحة لهم، فإنّ إيران ستبقى تعرض خدماتها على القطاعات الاجتماعيّة للاحتماء بها.
وإذا كانت موجبات التحالف الروسيّ- الإيرانيّ لا تزال قائمةً، وهي حاجة كلٍّ منهما إلى الآخر للضغط على الغرب بصورة أساسيّة، فإنّ كلًّا منهما سيحرص على ألّا يدفع بالآخر خارج موجبات التحالف بينهما؛ وما دامت هذه هي الحال، فسيبقى النظام الإيرانيّ يناور الكرملين، ويحاول دفعه إلى معاركه، ولعلّه سيلعب معه لعبته المعهودة مع الغرب، فيعمد إلى الاتّفاق معه عبر “الليبراليّين” بينما يخرق الاتّفاق جزئيًّا عبر “المتشدّدين”. وعلى كلّ حالٍ، فهناك مساحةٌ كبيرةٌ لإيران لتتعامل مع الظروف المختلفة بديناميّة على عادتها، وهي لا شك تبحث عن أيّ فرصةٍ تلوح لها (وهذا يحتاج إلى أن يصبح لديها فائض قوّة لتستخدمه، في وضعٍ تظنّه مناسبًا) لدفع أدواتها إلى فتح معركةٍ محدودةٍ مع إسرائيل لتستخدمها في فرز التحالفات في سورية، والمنطقة برمّتها، على أسسٍ مختلفة؛ وحينئذٍ فحسب ستحرّر حزب الله، ولو نسبيًّا، من موجبات تحالفها مع روسيا.
وفي جميع الأحوال لا يمكن مواجهة النفوذ الأجنبيّ، وفي مقدّمه النفوذ الإيرانيّ، إلّا من موقع الدولة الوطنيّة الديمقراطيّة الجامعة. وهو ما يتطلّب من القوى الوطنيّة (جماعات وأفرادًا)، المسارعة في قراءة التجربة الفاشلة للمعارضة والواقع السوريّ المتحرّك والمتبدّل، لإنتاج الجبهة الوطنيّة الديمقراطيّة المطلوبة، ووضع رؤيتها وبرنامجها. كما لا يُمكن مواجهة إيران من دون قوننة وضعها كقوّة احتلالٍ في سورية، الأمر الذي يستوجب عملًا سياسيًّا وإعلاميًّا نشطًا للوصول إلى ترسيمها قوّةَ احتلالٍ من جانب المجتمع الدوليّ. ما يسهل التفاوض معها للجلاء، بدلًا من أن تكون على طاولة المفاوضات طرفًا راعيًا لها. مع العلم أنّه حتى لو لم تؤدِّ الحملة المقصودة إلى ترسيم دوليّ لإيران بوصفها قوّة احتلال، إلّا أنّ المطالبة بوضع التفاوض على جلائها على طاولة المفاوضات، يصبح مفهومًا ومقبولًا.
* كتب مدير مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية هذه الورقة لمركز حرمون حيث نشرت أول مرة بتاريخ 9 يناير2017

مراجع

[1]– فريق عمل، مؤتمرات وقرار دولي، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، https://goo.gl/eoxIX2
[2]– يوسف فخر الدين، سوريا وإيران في ظروف إعادة التموضع الأمريكي، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، https://goo.gl/8TeRIx
[3]– فريق عمل، إيران وأتباعها (1): الميليشيا الشيعية في سورية (دراسة حالة)، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 2016. http://harmoon.org/archives/3411
[4]– فريق عمل، العلاقات الأميركية الإيرانية: بين الاحتواء والفوضى الخلاقة (دراسة حالة)، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، 2016. http://harmoon.org/archives/2661
[5]– للاطلاع على جانب من الانقسامات في النظام الحاكم في روسيا، يمكن الاطلاع على مقالة الصحفي اللبناني مصطفى فحص “مصالح وعقائد تحت سقف الكرملين”، جريدة الشرق الأوسط، https://goo.gl/HSGG3c
[6]– فريق عمل، ترامب: بين الاستمراريّة والانقطاع، مركز حرمون للدراسات المعاصرة، http://harmoon.org/archives/3050 .
[7]– “القرار الروسي التركي بشأن سورية يحصد إجماعًا تامًّا من مجلس الأمن”، الأخبار والإعلام إذاعة الأمم المتحدة، https://goo.gl/dWWRCa
[8]-“وزير الدفاع الإيراني: على الأتراك الخروج من سورية إذا طلبت دمشق ذلك”، روسيا اليوم، https://goo.gl/GYqPr8
[9]– “مستشار خامنئي: حزب الله لن يخرج من سورية”، روسيا اليوم،https://goo.gl/cb7UmC

يوسف فخر الدين

كاتب وباحث فلسطيني سوري مقيم في بوردو، فرنسا. من مؤسسي مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، مدير المركز.