تحليل سياسات - تقدير موقف

العدوان على قطاع غزة: الوضع الفلسطيني بين التجاذبات الداخلية والخارجية

محطة جديدة من عدوان مستمر
جاء العدوانُ الإسرائيليُّ الأخير على قطاع غزة امتداداً لاستباحة الضفة الغربية في أعقاب عملية خطف وقتل المستوطنين الثلاثة. منذ ذلك الوقت قرعت حكومة نتنياهو طبولَ الحرب. كان الهدف المركزيُّ المعلن للهجوم الإسرائيلي هو: اعتقال قيادات حماس، ورئيس وأعضاء المجلس التشريعي، ووزراء سابقين، المنتمين للحركة، وأسرى محرّرين عبر صفقة التبادل مع الجندي الإسرائيلي الأسير “جلعاد شاليط”. جاءت هذه الإجراءات الأشد انتقاماً من حركة حماس المتهمة بعملية أسر المستوطنين؛ وهو ما نفته الحركةُ بدايةً قبل أن يعود أحد قادتها، وبعده رئيس المكتب السياسي للحركة خالد مشعل، للاعتراف بأن أعضاء من الحركة من قام بها دون علم قيادتها، بعد اعتقال المتهمين واعترافهم بتنفيذها بحسب ما أعلنته سلطات الاحتلال.
وكان الهجوم الإسرائيليُّ في الضفة الغربية المحتلة قد ولّد احتجاجاتٍ شبابيةً ضدَّ قوات الاحتلال، التي اقتحمت المخيمات والمدن وفرضت أشكالاً من العقاب الجماعي ومارست الاستفزاز. وفي أعقاب خطف الطفل محمد أبو خضير وحرقه حياً، اندلع ما يشبه الانتفاضة في مدينة القدس وضواحيها، والتي استمرت لأيام. غير أن نقلَ العدوان إلى قطاع غزة، أدّى إلى اندلاع حرب “العصف المأكول”، بحسب تسمية المقاومة، أو”الجرف الصامد”، بحسب تسمية دولة الاحتلال والعدوان.
الحرب العدوانية التي نشهد، والتي شنتها حكومة نتنياهو ضدَّ الشعب الفلسطيني، ولاسيّما في قطاع غزة، جاءت امتداداً لسياسة تعميق الاحتلال، والاستيطان، والتهويد، والفصل العنصري. تلك السياسة التي أفضت إلى تقويض مقومات الحلِّ السياسي (الدولة المستقلة)، الذي يستجيب لقرارات الشرعية الدولية التي اعترفت بأقل من الحدِّ الأدنى من الحقوق الوطنية، والأساسية، للشعب الفلسطيني. لقد استخدمت حكومات الاحتلال، والإدارات الأميركية، المفاوضات على امتداد عقدين ونيّف كغطاء لأخطر عملية خداعٍ سياسيٍّ؛ عملية تتحدث عن دولة فلسطينية قابلة للحياة، وفي الوقت نفسه تقوم سلطات الاحتلال بتقويض مقوماتها على الأرض، وبفرض ابارتهايد (فصل عنصري) يضمُّ 5 “بنتوستونات” منفصلةٍ عن بعضها (غزة، القدس وأريحا، الخليل وبيت لحم، رام الله والبيرة، نابلس والشمال). “بنتوستونات” هي بمنزلة معسكرات اعتقال تفتقد إلى الموارد، وسبل العيش والاستيعاب للأجيال الجديدة، وحرية الحركة، والكرامة الإنسانية، لعموم الواقعين تحت الاحتلال؛ ويشعر المواطنون داخلها بالاختناق، ولديهم قابليةٌ للانفجار. وللحدِّ من إمكانية هذا الانفجار، والحدِّ من تأثيره إن حصل، أحاطت سلطات الاحتلال “البنتوستونات” بالبوابات الحديدية، وجدار الفصل العنصري، والحواجز العسكرية، وشبكة طرق استيطانية مغلقة أمام المواطنين الفلسطينيين، كلُّ ذلك بهدف الحيلولة دون الاحتكاك مع قوات الاحتلال والمستوطنين، كما حدث في الانتفاضة الأولى.
لقد وصل الصراع الفلسطينيُّ الإسرائيليُّ إلى مرحلةٍ حرجة، بفعل سيادة اليمين الديني والقومي العنصري في إسرائيل، المترافقة مع انحسار المعارضة اليسارية الصهيونية، وتجذّر اللامبالاة الأخلاقية لدى النخبة الثقافية الإسرائيلية، التي لم تعارض جدياً الاحتلال والكولونيالية والعنصرية إلا حالات فردية ومجموعات منعزلة ومحدودة التأثير؛ بل هناك شبه إجماعٍ على يهودية الدولة وما يسندها من إيديولوجيا دينية وإثنية قومية تحصر حق ملكية الأرض باليهود، وتشطب كلَّ حقٍّ للشعب الفلسطيني (السكان الأصليين). وظهر ذلك في رفض حكومة نتنياهو نتائج المفاوضات السابقة التي توصل إليها “إيهود باراك” و” إيهود اولمرت، وعادت لتفاوض من الصفر دون أن تقدم أيَّ شيء، وهي المسؤولة عن فشل مفاوضات الشهور التسعة. وفي المحصلة لخّص نتنياهو موقف حكومته من العملية السياسية بالقول: “لا غنى لإسرائيل عن غور الأردن كخطِّ دفاعٍ عن أمن إسرائيل”، وأضاف فيما بعد: “لا غنى لإسرائيل عن الضفة الغربية”. وبعد احتلال تنظيم داعش للموصل وبعض المدن العراقية قال الجنرالات: إن الحدود العراقية الأردنية هي خطُّ الدفاع الأول عن أمن إسرائيل. وعلى قاعدة الرفض الإسرائيلي المطلق للتراجع عن الاحتلال والاستيطان والسيطرة، تذرعت حكومة الاحتلال بخطف المستوطنين الثلاثة لاستباحة الضفة الغربية وتحويل أنظار العالم عن قضية الاحتلال المزمن، وعن مسؤوليتها في إفشال المفاوضات، إلى قضية أمن إسرائيل “المهدد”. وجاء العدوان الإسرائيلي ضد قطاع غزة ليضع الأمن الإسرائيلي في مركز الأجندة الدولية والإقليمية. ومن أهدافه الأخرى قطعُ الطريق على المسعى الفلسطيني للبحث عن مسارٍ بديلٍ لمسار المفاوضات التي استنفدت ولم يعد يقتنع بها، وبالوساطة والدور الأمريكي، إلا النزر القليل من الشعب الفلسطيني داخل وخارج الوطن. ويأتي إفشال حكومة الوفاق من بين أهداف العدوان، وذلك من أجل: تكريس الانقسام، وتكريس فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية. ولم يختلف سياق العدوان الجديد عن سياق الحروب السابقة، وهو القتل والتضييق والخنق، الذي يدفع الشعب الفلسطيني للبحث عن مكانٍ آخرَ وهو شكلٌ جديد من “الجينوسايد” التطهير العرقي المكمل لحرب التطهير عام 1948 .

استعادة الإسلام السياسي مكانته في فلسطين
كانت حركة حماس منذ حسمها العسكري عام 2007 قد عمقت سيطرتها على قطاع غزة في جهاز التعليم وشبكة المساجد والأوقاف والأراضي الحكومية، التي نقلت ملكيتها لكوادر تنظيمية يصعب استعادتها، وطورت مؤسساتها داخل المجتمع بما يعزز القاعدة الاجتماعية الصلبة التي ترتبط مصالحها بمصالح التنظيم، ووضعت منظومة قوانين تحظر الاختلاط بين الجنسين وتفرض الزيَّ الإسلامي وتمسُّ بالحريات العامة بما في ذلك حرية التعبير، وتفرض قطيعةً مع التراث الوطني. والأهم قامت الحركة بمأسسة المليشيا المسلحة وحولتها إلى ما يشبه الجيش، أو المؤسسة العسكرية التي تملك أسلحةً تستطيع فتح معركة مع دولة الاحتلال وقصف مدنٍ إسرائيلية من جهة، وتستطيع حسم السيطرة الداخلية بالقوة من جهة أخرى. وتعتمد “حماس” أيضاً على أذرع أمنية قوية، منتشرة في كلِّ نواحي قطاع غزة، تراقب، وتُخضع، كلَّ من يحاول معارضتها. هذا التغيير الذي أحدثته يُفسر بالهدف الذي أصبح واضحاً مع الوقت، وهو إقامة سلطةٍ أو “إمارة إسلامية” لا تلتزم بقواعد الديمقراطية (التبادل السلمي للسلطة)، ولا بالتعدد السياسي والثقافي و”الديني” إلا على قاعدة ومفهوم الحزب الحاكم الذي يضمُّ تحت جناحيه تنظيماتٍ تابعة لها وظيفة تجميلية. وظهر جليّاً أيضاً، عبر الإجراءات سابقة الذكر، أن حركة حماس لا تؤمن بالشراكة السياسية على قاعدة التمثيل النسبي. باختصار، قامت الحركة ببناء سلطةٍ دينيةٍ على الأرض موازية للسلطة المركزية القائمة والمفترضة، ولم تقبل أن تكون جزءاً منها إلا من موقع السيطرة شبه الكاملة.
التحويل الذي أحدثته حماس، قبل وبعد، فوزها في الانتخابات عام 2006، اعتمد على شعار مقاومة الاحتلال لحظة عجز منظمة التحرير وفصائلها، وفي ظلِّ “اتفاق أوسلو” الذي استخدمته دولة الاحتلال لتعميق الاحتلال، ومضاعفة الاستيطان، والسيطرة الكولونيالية. وفعلاً كان سلاح المقاومة سحرياً في تعزيز النفوذ والتأييد الجماهيري، وساهم بفاعليةٍ في صعود الحركة. وضمن مسعاها للتمكن، نجحت حركة حماس في بناء تحالفات مع إيران وحزب الله والنظام السوري، وهي التحالفات التي كان لها دورٌ ملموسٌ في تقوية الحركة سياسياً وعسكرياً. غير أن الهدف المبتغى من قبل المحور الإيراني هو استخدام الورقة الفلسطينية في الضغط لتحسين شروط المساومة مع الأمريكان، وفتح جبهةٍ ضدَّ إسرائيل في حالة الاعتداء على إيران، وإفشال الحلِّ السياسي المفترض، وتعزيز الانقسام الفلسطيني كونه يبطل مفعول استخدام الورقة الفلسطينية قبل إبرام التسويات الإيرانية والأسدية مع إسرائيل والغرب. المقاومة بالنسبة لهذا المحور هي ورقة ضغطٍ واستخدام بمعزل عن هدف الخلاص من الاحتلال؛ والمقاومة بالنسبة لحركة حماس هي وسيلةٌ للسيطرة على المجتمع وإقامة سلطةٍ دينيةٍ بمعزل عن التحرر الفعلي من الاحتلال، وبمعزلٍ عن وضع إستراتيجيةٍ للتحرر يشارك فيها الشعب بأشكالٍ متنوعة من المقاومة. فبعيداً عن الخطاب المستخدم للاستهلاك الجماهيري، فإن حركة حماس تؤيد برنامج المنظمة، إقامة دولة في الأراضي المحتلة عام 67، وتقبل بهدنةٍ طويلة الأمد كبديلٍ عن الاعتراف بإسرائيل؛ والتأييد مرهون بقيادتها هي للعملية السياسية. لذلك فإنها من خارج العملية السياسية لم تضع سلاح المقاومة ضدَّ الاستيطان وتهويد القدس وبناء جدار الفصل العنصري في الضفة في خطابها السياسي ومن الناحية العملية. ويلاحظ أنه منذ صعود حماس في الانتخابات عام 2006، وهي تلتزم بهدنة (وقف إطلاق النار) في قطاع غزة، وفي الضفة الغربية أيضاً. وقد تخلل الهدن ثلاث حروب، انتهت حربين -والثالثة أيضاً توقفت بانتظار صفقة هدنة جديدة- بالتأكيد على التهدئة ومزيد من الشروط لمصلحة الاحتلال. وهذا يوضح أن حركة حماس لا تملك إستراتيجيةً وطنيةً بديلة.
مطالب “حماس” في الحرب الثالثة التي توقفت بعد 51 يوماً من القتال، تركزت على دعم مقومات سلطتها في غزة بمعزل عن مصير الاحتلال في الضفة والقدس، وبمعزل عن إعادة ربط القطاع بالضفة الغربية. -وقد جرى تصويب الموقف شكلياً بعد نقد ذلك من داخل الوفد المفاوض وخارجه-. تعيش حركةُ حماس شروطاً سياسية ومالية صعبة بعد خسارتها لنظام الإخوان المسلمين في مصر، وبعد قيام النظام الجديد برئاسة المشير “عبد الفتاح السيسي” بإجراءاتٍ شاملةٍ ضدَّ الحركة، أهمها: وضعها على القائمة السوداء سياسياً، وإغلاق الأنفاق التي تربط القطاع برفح المصرية، وتؤمن دخلاً مالياً كبيراً لحركة حماس. وكان تحالفها مع النظام السوري قد انفرط بعد تأييدها للإخوان المسلمين في المعارضة السورية، والتزامها بموقف التنظيم الدولي للإخوان المؤيد لإسقاط النظام. وفي السياق نفسه تراجعت علاقة حركة حماس بإيران وحزب الله، وخسرت الدعم المالي الإيراني، ولم يبقَ من حلفاء حركة حماس غير قطر وتركيا. تراجعت مكانة الحركة السياسية وتضعضعت مواردها المالية إلى المستوى الذي لم تعد فيه قادرةً على دفع رواتب موظفيها. فاضطرت إلى استخدام اتفاق الدوحة الذي أبرمته مع الرئيس أبي مازن بمرونة فاقت كلَّ التوقعات، ما يَسّرَ تشكيل حكومة وفاق برئاسة “رامي الحمد الله” كبديلٍ لحكومتي غزة ورام الله.

المنظمة والسلطة الحاضر الغائب
كشف العدوان الإسرائيلي واقعَ الحركة السياسية الراهن، وبيّن أن ميزان القوى الداخلي الشعبي رَجَحَ لمصلحة المقاومة الإسلامية وتنظيماتها (حماس والجهاد)، خلافاً لفترة ما قبل الحرب التي سجلت تراجعاً في شعبية الإسلام السياسي. فالمقاومة الإسلامية هي التي أخذت القرارَ بالقتال وبوقفه، وتقبل بالهدنة الإنسانية أو ترفضها، وهي التي تضع الشروط المقدمة للإسرائيليين، بينما المنظمة بفصائلها لا تملك غير تشكيل الغطاء السياسي فقط، والتوسط بتقديم النصح والإرشاد. تبين أن القرارَ السياسيَّ في كلِّ ما يتصل بالمقاومة، وبهذه المعركة، هو خارج منظمة التحرير وفصائلها، وأن القرار الذي تتخذه حركة حماس يحظى بتأييدٍ شعبيٍّ جارفٍ، رغم الإِشكال السياسي الخطير الذي قد يترتب على سياستها من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي تاريخياً وراهناً. وبَيّن العدوان الذي استمرَّ 51 يوماً، أن قوى اليسار خسرت ميزة النقد والاعتراض ومحاولة تصويب التجاوز السياسي، وتوزع موقفها الذيلي على (حماس وفتح). وخسرت فتح حساسيتها الوطنية، بعد أن اعتمدت إستراتيجية المفاوضات وانتظار الحلِّ السياسي عبر الوساطة الأمريكية. وبعد أن اندمجت بالسلطة ولم تترك هامشاً لاستقلالها عنها وعن أجهزتها التي كانت على الدوام محطَّ تدخلاتٍ خارجية، بما في ذلك التدخل الإسرائيلي المغطّى بالتنسيق الأمني. لم تفكر قيادة فتح، أو أجزاءٌ منها (كالاتجاه الذي يمثله القيادي القابع في سجون الاحتلال مروان البرغوثي)، بتغيير تلك الإستراتيجية بعد الإخفاق السياسيّ المتكرر، وصولاً إلى سقوطه المدوّي وما جلبه من مصائب وخيبات أمل. بقيت قيادة فتح المنفصلة عن قاعدتها وعن نبض مناصريها، تنتظر المجهول؛ بل تعتمد على أخطاء سياسات حركة حماس لتبرير دورها السلطوي كحزبٍ حاكم. وذلك بعد أن نشأت لقيادتها مصالحُ خاصةٌ تستطيع الحفاظ عليها من خلال بقاء السلطة، واستمرار مرحلة اللاحل، وبقاء الشعب دون مسارٍ جديد يشكل بديلاً لمسار المفاوضات وعلاقات التبعية، ولمسار سيطرة الإسلام السياسي الذي لا يملك خياراً وطنياً خارج علاقات التبعية للأمريكان وحلفائهم الإقليميين.
ما أحدثته الحرب من تهميش للممثل الشرعي الوحيد، جاء كنتيجةٍ منطقيةٍ لعدم تجديد وإصلاح البنية التنظيمية، والسياسية، والفكرية والمالية الشائخة لكلٍّ من فتح والمنظمة بكل فصائلها. بقيت الرموز البيروقراطية الفاسدة، وغير المقنعة، وغير الموثوقة، في الصدارة تقدم الخطاب السياسيَّ والإعلاميَّ المكرور الفارغ من أي مضمون. ويستمرُّ هذا الوضع في غياب نقد ورقابة وتدخل المستوى الثقافي، وفي غياب معارضةٍ علمانيةٍ يسارية، تساهم مع المستوى الثقافي بالمعنى الافتراضي في تشخيص الأخطار، ورفع سوية الوعي بالتحديات، واستكشاف عناصر القوة التي يملكها الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، بغية دعم النضال الميداني على الأرض، بتقديم خطابٍ بديلٍ للخطاب الشعبويّ المؤسس على النوايا وثقافة الثأر والانتقام من المحتلين.
كان أداء حكومة الوحدة هامشياً، حكومة غائبة عن القرار السياسي، وهبط دورها إلى دورٍ خدميٍّ لوجستيّ. لم تكن هذه السلبيةُ السياسية مستغربةً منها، بل هي منسجمةٌ مع عدم امتلاكها صلاحيات، فضلاً عن ضعف التمثيل لديها قبل العدوان، والتي انعكست بغيابها سياسياً أثناء العدوان. فواقع الحكومة أثناء العدوان كشف عمق الانقسام، وشكلية الوحدة من فوق، خلافاً للوحدة الشعبية التي تعمّقت أثناء العدوان أكثر من أي وقتٍ مضى. لقد انكشفت هشاشة المؤسسة الحكومية التي تمَّ بناؤها بمعزل عن الحاجة والكفاءة، والتي نخرها الفساد الإداري والمالي والسياسي، كم كان الادعاءُ ببناء نواة دولةٍ تحت الاحتلال فارغاً من أي مضمونٍ، مهمة صرفت المبالغ الطائلة لتحقيقها من قبل حكومة سلام فياض دون جدوى. ففي الأسبوع الأول للعدوان حدث احتقانٌ شعبيٌّ ضدَّ أجهزة السلطة التي بات تنسيقها مع أمن الاحتلال مرفوضاً أكثر من أي وقتٍ مضى، ولولا اتباعها المرونة لحدثت صداماتٌ بين جموع المحتجين وأجهزة الأمن.

النتائج الأولية للحرب
لا تريد حكومة “نتنياهو” –الاتجاه المركزي “نتنياهو -يعلون”- اجتياح قطاع غزة، على الرغم من وجود اتجاهٍ آخر داخل الحكومة يدعو إلى ذلك صراحةً –”ليبرمان-بينيت”- لأنها لا تريد تقويضَ حكم حماس في غزة كما تقول، ولا تستطيع الخروج على الموقف الأمريكي الذي يدعو إلى وقف الحرب، ولا تريد تعزيز سلطة أبي مازن في الضفة وإعادتها إلى قطاع غزة كما تقول، ما يهمها هو وقف إطلاق صواريخ وقذائف المقاومة بالمستوى الذي يحقق الهدوء في غلاف غزة، كما كان عليه الحال بعد اعتداءات “الرصاص المصبوب”، و”عمود السحاب”، التي قادت إلى تفاهمات بمسعى مصري أمريكي. وهو ما أُطلق عليه “تهدئة” كونه نوعاً من شراء الهدوء المتبادل، مع بقاء قطاع غزة معسكرَ اعتقالٍ كبير بمعابرَ مسيطرٍ عليها. إن الموقف الإسرائيلي يطرح سؤالاً: هل سيتكرر الاتفاق بتحسينات مشروطة بعد اعتداء “الجرف الصامد”؟
تتهرب حكومة نتنياهو من ربط أي اتفاقِ تهدئةٍ جديد، بإعادة طرح قضية احتلال الضفة الغربية على الأجندة الإقليمية والدولية، وهي تسعى بقوة الحرب إلى طرح أمن إسرائيل “المهدد” زعماً على الأجندة الدولية والإقليمية مستفيدةً من عدم الاستقرار والفوضى الناجمة عن تصدّر داعش وشقيقاتها المشهد السياسي والأمني في طول وعرض المنطقة. تحاول حكومة الاحتلال فرض هدوءٍ مقابل هدوء، أو تهدئة متبادلة، وتطرح “نزع سلاح المقاومة” الذي أخفقت في تحقيقه بالقوة وحرب ال 51 يوماً. وفي خلفية المشهد، هناك مشروعٌ سياسيٌّ واحدٌ لا ترفضه حكومة نتنياهو، هو إقامة دولة في قطاع غزة كحلٍّ للقضية الفلسطينية برمتها بشرط عدم المسِّ بأمن إسرائيل، وتقبل بأيِّ مسمى من نوع “هدنة طويلة الأمد”. إن الأهداف المباشرة لحكومة “نتنياهو” من الحرب هي: فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية، وإخراجه من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وتكريس الانقسام، وإشعال الصراع الداخلي الفلسطيني.

نتائج الحرب:
• توقفت الحرب في اليوم الحادي والخمسين ولم تحقق دولة الاحتلال وترسانتها العسكرية الحديثة أهدافها المعلنة، وهي: النصر الحاسم والسريع على المقاومة المحاصرة والمحدودة التسليح، حيث بقي إطلاق القذائف والصواريخ الفلسطينية حتى لحظة وقف إطلاق النار الأخيرة. ويمكن القول إن المقاومة زعزعت نظرية الأمن الإسرائيلية، وأصبح للقوة العسكرية حدودٌ، انتهى معها زمن الحرب الخاطفة وجيشها الذي لا يقهر وقوة ردعه وانتصاراته السهلة قليلة الكلفة.
• استهداف المدنيين الفلسطينيين والقتل بطرق منهجية، كتدمير المنازل على ساكنيها وتحطيم شروط الحياة والبقاء في المكان وخلق مناخ من الرعب والإرهاب للأبرياء، يكشف إستراتيجية إسرائيل الشاملة تجاه فلسطين والشعب الفلسطيني؛ التي تتلخص بدولةٍ يهوديةٍ وعددٍ أقل من السكان الأصليين. كانت حصيلة الخسائر الفلسطينية “2143” شهيداً و”11″ ألف جريحٍ وتدمير البنية التحتية -خسائر بقيمة 6 مليار دولار- وأكثر من نصف مليون مهجر داخل قطاع غزة. تدَّعي حكومة العدوان أنها دمرت الأنفاق الهجومية التي تؤدي إلى الكيبوتسات والمواقع العسكرية الإسرائيلية، وتدعي أنها دمرت الجزء الأكبر من قدرات المقاومة بما في ذلك قتل نحو “1000” مقاوم. ولا يوجد ما يسند ادّعاءها، بالعكس أن تقدير الأمم المتحدة يقول: إن نسبة المدنيين من الضحايا تعادل “70%” من العدد الإجمالي وهذا وحده يكشف المبالغة الإسرائيلية التي تحاول تبرير الإخفاق. في مقابل سقوط “64” ضابطاً وجندياً إسرائيلياً قتيلاً و”6″ مدنيين إسرائيليين ونحو “1500” مدنيٍّ وعسكريّ جريح أو مصاب بالصدمات والهلع. وخسرت دولة الاحتلال “3-4” مليار دولار. الغريب في الأمر أن جرائم الحرب الإسرائيلية -حرب الإبادة والدمار- لم تقابل بردِّ فعلٍ من النظام الدولي والنخب السياسية في الغرب؛ الذين لم يكتفوا بعدم الاعتراض، بل منحوا المعتدين غطاءً سياسياً وحصانةً لمواصلة جرائمهم. ردُّ الفعل الأهم الذي جاء بصيغة توافقٍ شعبيٍّ عالميٍّ واسع ضدَّ العدوان، ودولته، وضدَّ جرائم الحرب الإسرائيلية. وقد ارتقى التضامن إلى أشكالٍ من المقاطعة، والاحتجاج شبه المنتظم، الأمر الذي فتح جبهةً متعاظمة القوة لمساندة الشعب الفلسطيني.
• كان أداء المقاومة في الحرب مميزاً من زاوية الإرادة الصلبة، والتخطيط، والمبادرة، والشجاعة، والقدرة على الاستمرار. ما أدى إلى إرباك وحدات النخبة الإسرائيلية، ودفعها إلى تحويل مركز الثقل في هجومها نحو المدنيين والأهداف المدنية؛ وإلى إيقاع خسائر غير مسبوقة في صفوفها. تفوقت إرادة المقاوم الفلسطيني على إرادة الجندي الإسرائيلي، وهذا يعود إلى الفارق الجوهري بين مقاتل يناضل من أجل الحرية، ويدافع عن شعبه، وبين جنديٍّ معتدٍ يدافع عن أهدافٍ “كولونيالية” وسياسة عنصرية.
• كان أداء المستوى السياسي (قيادة حماس وبمستوى أقل الجهاد) مرتبكاً؛ فإن أيَّ مقارنةٍ بين بنود اتفاق وقف إطلاق النار الأخير، والمبادرة المصرية الأولى بعد أسبوعين من العدوان، ستقول إنه لا يوجد فرق بين الصيغتين. الفرق كان في حجم الخسائر التي لحقت بالمواطنين وبالبنية التحتية. وهذا يطرح سوء تقديرٍ للموقف السياسي، الذي انبنى على احتمال رضوخ دولة الاحتلال لشروط المقاومة التي تعني قبولها بهزيمةٍ سياسية وعسكرية. كان الأفضل التمييز بين الفرق بين إفشال أهداف العدوان، وطرح المطالب والأهداف الفلسطينية المشروعة، وبين إرغام العدو على التسليم بالهزيمة. فالأخير يحتاج إلى ميزان قوى سياسيٍّ وعسكريّ واقتصاديّ لمصلحة المقاومة، وهذا غير قائم، ومن الصعب تحققه، في الشروط القائمة؛ ولو كان موجود لكانت هزيمة المشروع الصهيوني ستكون سهلة. فالنظام الدولي، كما شاهدنا، أيّد العدوان وأهدافه، والنظام العربي الرسمي لم يعترض سياسياً على العدوان، والموقف الإيراني، وحزب الله، اقتصر على التأييد اللفظي.
لم يقرأ المستوى السياسي هذا الوضع ولم يتأثر به وهو يتخذ القرارات، ما أدى به إلى التراجع والقبول بوقف إطلاق النار قبل أن تتحقق الشروط التي سيتم التفاوض حولها بعد شهرٍ من وقف الحرب وأثناء حالة الهدوء، وليس قبل أن تتوقف الحرب كما كان يشترط المستوى السياسي. ومن الجدير بالذكر أن نتنياهو وعد جمهوره بأنه لن يستجيب لها. بل إن مشروع قرار مجلس الأمن الذي يجري إعداده سيطرح سلاح المقاومة على بساط البحث.
الخطأ الثاني الذي ارتكبه المستوى السياسي هو رفض المبادرة المصرية والبحث عن مبادرةٍ قطرية تركية بديلة؛ ما أدى إلى ضياع الوقت الذي يخسر فيه الشعب في كل يومٍ وكل لحظة المزيد. وكان على المستوى السياسي أن يدرك أنّ مكانة مصر، بحكم جوارها لقطاع غزة، لا يمكن شطبها أو استبدالها بطرفٍ آخر. وهذا ما عاد المستوى السياسي لمراعاته مؤخراً، ولكن بعد إضاعة وقت ثمين جداً. وكان سبب هذا التقدير الخاطئ هو ربط المستوى السياسي معركة غزة بهدف آخر هو استعادة مكانة الإخوان المسلمين في المنطقة وفي مصر. وما كانت الشروط الواقعية الفلسطينية تحتمل فتح معركة سياسية إقليمية بهذا الوزن الثقيل أثناء الهجوم الإسرائيلي الوحشي على قطاع غزة. قبول وضلوع المستوى السياسي بالدخول في معركةٍ سياسيةٍ أخرى، أدى إلى فقدان زمام المبادرة السياسية والسماح لدولة العدوان بانتزاعها، ما أدى إلى مفاقمة الخسائر السياسية والبشرية والمادية الفلسطينية. كما كان أداء المستوى السياسي مرتبكاً وتجريبياً وشكّل عبئاً على المستوى العسكري المقاوم.
• تراجع دور المستوى السياسي الرسمي الذي تمثله قيادة المنظمة والسلطة، إلى مستوى الوسيط الذي ليس له علاقة بقرار الحرب ووقفها. صحيح أنه شكل غطاءً سياسيّاً للمقاومة على أمل أن يعيد أي اتفاقٍ جديد الحياة في أوصاله، وذلك بعد ردح طويل من المفاوضات الفاشلة، وبعد إخفاقه في الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، وبعد استنكافه عن تجديد بنية المنظمة الشائخة وبنية السلطة البيروقراطية. ذلك أن مسار أوسلو وآلية عمله تقود إلى تفكيك مكوّنات الشعب وعزلها عن بعضها. ولهذا ثمة خشية من عودة المفاوضات التي تدمر المزيد من الوقت دون جدوى وتشكل الغطاء لسياسة تعميق الاحتلال، والاستيطان و”الجينوسايد” و”الابارتهايد”.
• القبول بحرب مواجهة، قصف مقابل قصف، كان مغامرةً غير مدروسة يتحمل مسؤوليتها المستوى السياسي؛ هذا ما تقوله مقارنة خسائرُ الطرفين غير المتكافئة المبينة أعلاه. والنتائج تؤكد أن حرب المواجهة (جيش مقابل جيش) مع آلةٍ عسكريةٍ حديثةٍ ستكون خاسرةً فلسطينياً. بينما اتباع حرب المقاومة المسلحة التي تستند للخصائص المتناقضة (وضع عناصر قوة المقاومة على عناصر ضعف العدو، وعدم تمكين الأخير من فعل ذلك)، هي التي تتلاءم مع واقع الشعب الفلسطيني ومع خياره حرب الشعب طويلة الأمد. وفعلاً عندما اتبعت المقاومة هذا الأسلوب أثناء الحرب حققت نجاحات مهمة، من خلال قصف تجمعات العدو حول القطاع بمدافع الهاون، ومن خلال الهجوم عبر الأنفاق ألحقت خسائر كبيرة بالمعتدين. ولا يعقل أن يتمَّ خوض مواجهة غير متكافئة محدودة، ويصار بعدها الالتزام بهدنةٍ طويلةٍ بانتظار مواجهةٍ أخرى. إن هذا النمط من الحرب ينسجم مع الشكل الاستخدامي للمقاومة من قبل حركة حماس ومن قبل القوى الإقليمية.
• ثمة ضرورةٌ لانتزاع المبادرة السياسية، بإعادة طرح قضية الاحتلال على رأس الأجندة الدولية والإقليمية والعربية. ليس عبر الوساطة الأمريكية والمفاوضات وتكريس اتفاق أوسلو وسلطته، بل عبر البحث عن مسارٍ سياسيٍّ جديد يخوض معركة إنهاء الاحتلال وتقرير المصير، وعودة اللاجئين، وإقامة الدولة المستقلة بمشاركة كل الشعب داخل وخارج الوطن، وبمشاركة أصدقاء وحلفاء الشعب عربياً وعالمياً الذين قدموا نموذجاً رائعاً في الدعم والتضامن أثناء العدوان. ولن يكون ذلك عبر البنية الشائخة للسلطة والمنظمة والفصائل، بل عبر تجديد هذه البنية لتكون معبرة عن مكونات ومصالح الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده كلها.
رام الله 29/ 8/ 2014.
لتنزيل التحليل ملف PDF أدناه:
[gview file=”http://drsc-sy.org//wp-content/uploads/2014/09/m-muhanad.pdf”][gview file=”http://drsc-sy.org//wp-content/uploads/2014/09/m-muhanad.pdf”]

مهند عبدالحميد

باحث وإعلامي يقيم في مدينة رام الله