أبحاثكتب

العلويون والثورة السوريَّة

الدكتور راتب شعبو
أسهم في البحث
وائل بيسان، زاهد علي، نعيم جعفر
أشرف على البحث
يوسف فخر الدين
استشارة:
أ. الدكتور يوسف سلامة
أ. الدكتور عارف دليلة، عضو مجلس أمناء مركز دراسات الجمهوريّة الديمقراطيّة
صورة الغلاف نحت للفنان محمود السعدي
مقدمة
ربما كانت الثورة السوريّة من أكثر الأحداث التاريخيّة التي عانت من تشويهٍ مدروسٍ للحقائق، وهذا ما يضع الباحث في حيرة. إذا كان “كلّ ما يحدث في شؤون البشر كان يمكن أن يحدث على نحوٍ آخر” فإن “ممكنات الكذب لا محدودة”، وطالما أن “الحقيقة مغلوبة دوماً عندما تتصادم مع السلطات القائمة” على ما تقول حنا أرندت، يبقى النظر إلى ميدان السياسة من خارجه، والتحرر من التحيّزات، قدر الممكن، هو ما يمنح الباحث فرصة بناء تصوّرٍ موضوعيٍّ عن الواقع.
يلاحظ الباحث في الشأن السوريِّ أن القسم الأكبر من النشاط الفكريِّ للمعارضة السوريّة تركّز في هجاء النظام (قمعه، وتفرده، وفساده..) أكثر ممّا تركز في فهمه ودراسة آليات عمله وتفسير نجاحه في الديمومة والتأقلم مع المتغيرات العالميّة والإقليميّة. لا شكَّ أن القمع والطائفيّة والإقصاء لا تكفي لتفسير ديمومة النظام السوريِّ. كما لا يسعف رمي الأمر في عالم غيب اسمه الرضى الأمريكي أو الإسرائيلي. ولعل غزارة التبشيرات المبكرة بقرب سقوط النظام السوريّ منذ بداية اندلاع الثورة السورية 2011، والتي كان أكثرها تشاؤماً يبشر بسقوطه بعد أشهر قليلةٍ، تعود في أساسها إلى غياب الفهم العلميّ لتركيبة النظام ومصادر قدرته على الاستيعاب.
وقد ساد في غضون الثورة السوريّة، فهمٌ “معارضٌ” بسيطٌ عن النظام السوريّ يختزله في جانب منه، فتمَّ التركيز على البعد الطائفيّ، أي على القشرة “العلويّة” الظاهرة على السطح دون المضي إلى ما هو أبعد، ودون البحث في دعامات النظام غير العنفيّة التي تشكّل في الواقع أهمّ أسرار استمراره ومقاومته. فالقسريّة وحدها، كما يحاجج بحق “ستيفن هايدمن” في كتابه “التسلطية في سوريا”( )، “لم تحمِ الأنظمة التسلطيّة من السقوط في خضم التحوّلات الكبيرة المشهودة في العقدين الأخيرين”.
في الواقع كان النظام السوري عنيفاً على الدوام، إلى حدود اتباع سياسة الأرض المحروقة، مع أيِّ شكلٍ من المعارضة السياسيّة ولاسيّما المنظّمة منها، غير أنه كان أميل إلى اللين في المجال الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ، حيث سعى للتكيّف والتلاؤم مع مصالح الفئات البورجوازيّة الراسخة في سورية وتحديداً الشامية منها والحلبية. وبهذا الصدد نلاحظ ما ذكره المؤرخ “حنا بطاطو” عن التذمر الدائم الذي كان يبديه رفعت الأسد من البورجوازيّة الشامية بما يظهر عجزه أمامها، وهو صاحب أكبر جهاز قمع حينها وأكثرها وحشية( ) (سرايا الدفاع). الأهم من ذلك ما يذكره بطاطو في الكتاب نفسه: “ففي “زمن مشكلات” الأسد، أي فترة 1976-1982، كان تجار سوق الحميدية –وهو أحد أهم أسواق المدينة- يلعبون لعبة مزدوجة. كان بعضهم على الأقل، كما يعتقد، يساعد بحرية الإخوان المسلمين مع تفادي أي توافق علني مع الحركة، فيم ضمن آخرون، من خلال مبادرات الدعم للحكومة عبر غرفة تجارة دمشق، امتيازات للطبقة كلها”. ردة فعل الأسد حيال ذلك كانت توسيع مساهمة التجار وتقديم المزيد من الامتيازات كما تشير الأرقام.
صحيح أن النظام لم يسمح بتشكّل حزبٍ سياسيٍّ يمثل التجار (حاول في أواخر التسعينيات من القرن الماضي استمالة الإخوان المسلمين لتدجينهم في الجبهة الوطنية التقدمية فيكونون التعبير السياسيّ عن تجار المدن)( )، لكن هؤلاء كان لهم القدرة على النفوذ إلى السلطة كمستقلين في مجلس الشعب، أو عبر غرف التجارة أو عبر الشراكات وسواها، وقد كان الميل الاقتصاديُّ العامُّ للنظام ينحو، تدريجياً، باتجاه الانفتاح واقتصاد السوق، وإن بالحذر والحرص المميز للنظام الأمنيّ الذي يخشى أن تفلت الأمور من يديه.
الاشتراكيّة التي كان يرفع النظام السوريّ شعارها ليل نهار، لم تعنِ له شيئاً كمبدأ أو كنهجٍ موجّه، ولم تعنِ الاشتراكية للنظام أكثر ممّا عنت له الحرية والوحدة في الشعار المثلث لحزب البعث، وكان انشغاله الدائم يتركّز في منع تشكّل معارضةٍ سياسيّةٍ منظّمة، مع العمل على استيعاب الفئات الاجتماعيّة العليا والمتوسطة بشكلٍ خاصٍّ في دورته الاقتصاديّة، وفتح منافذ لها إلى السلطة عبر قنوات النظام نفسه.
الكتابات المناهضة للنظام السوريّ مسكونةٌ، في الغالب، بالمعارضة بالمعنى النضاليّ للكلمة، وتنطوي على رغبةٍ ملحّةٍ بالتحريض من خلال التركيز على استبداد النظام، مع ميلٍ رغبويٍّ بالتقليل من علاقته بالمجتمع. وفي غضون الثورة برز ميلٌ واضحٌ (ولاسيّما مع تعثّر الثورة) للتركيز على علاقة النظام بالعلويين وتجهيل علاقته بالجماعات الأخرى. من حقّ من يقرأ هذا النمط من الأدبيات المعارضة أن يستغرب، كيف تتمسك أغلبيّةٌ مدنيّةٌ حلبيّة أو شاميّة، مثلاً، حتى لحظة كتابة هذه الأسطر، وهي سنّيّةٌ محافظةٌ، “بنظامٍ علويٍّ”؟
إذ نلقي الضوء هنا على علاقة النظام بالعلويين، أو قل على جانب من هذه العلاقة، وبفترةٍ زمنيّةٍ محددةٍ هي الصراع الراهن، نجد أنفسنا معنيين بعرضٍ موجزٍ لتصوّرنا عن قدرة النظام على الاستيعاب والاستمرار لعقودٍ حافلةٍ بالمتغيّرات.
للاطلاع والتنزيل أدناه أو الضغط هنا

راتب شعبو

كاتب وباحث في مركز دراسات الجمهوريّة الديمقراطيّة، عضو هيئة تحرير قسم التحليل السياسيّ والإحصاء، مدير فريقٍ بحثيٍّ في المركز. يقيم راتب مؤخراً في فرنسا. وهو طبيب. وقد اعتقل لمدة 16 عاماً في سجون النظام السوري بتهمة الانتماء لحزب العمل الشيوعي..