تحليل سياسات - تقدير موقف

تعقيدات مشروع التغيير السوريّ وعوائقه

لا يزال الصراع السوريّ يتفاقم ويستعصي على الحلِّ وتواجهه احتمالاتٌ متعدّدةٌ ربّما أسوأها، ونأمل أن يكون أقلّها حظًّا، انجرار الناس من احتقان اليأس إلى ردّات فعلٍ ثأريّة، وأوضحها أنّ زمن التغيير الديمقراطيّ سوف يطول وستزداد تكلفته أيضًا، ربطًا بالخصوصيّة التي تميّزه والتعقيدات التي تعترضه.

أوّلًا، تقع سورية ضمن محور نفوذٍ في المنطقة يختلف ويتعارض مع ما يمكن تسميته المحور الغربيّ الذي قد يكون أحد رعاة ومساندي التحوّلات الديمقراطيّة، الأمر الذي يضاعف الصعوبات أمام مشروع التغيير، لأنّ نجاحه يقود إلى كسر الحلقة السوريّة من سلسلةٍ، جاهد رأسها الإيرانيّ لسنين طوال كي يبقيها متماسكةً وقويّةً وقادرةً على تخديم نفوذه. وإذا أضفنا حجم المصالح الروسيّة التي حضّت على تدخّلٍ عسكريّ قويّ، لتفرض بعد أكثر من عامين، تبدّلاتٍ عميقةً في توازنات القوى وفي مسار الصراع العسكريّ والسياسيّ القائم، وأضفنا مواقف معظم الدول الغربيّة والعربيّة التي لم ترقَ إلى شدّة ما يكابده السوريّون، وآثرت المراوحة بين السلبيّة والتردّد، ربّما لأنّ أغلبيّتها تخشى التداعيات التي سوف يخلقها قيام سلطةٍ ديمقراطيّةٍ في سورية على أنظمتها ومصالحها، نقف أمام حقيقة أنّ مشروع التغيير السياسيّ في سورية سوف يواجه مصيره وحيدًا، وأنّ ثمّة قوًى إقليميّةً ودوليّة مؤثّرة وفاعلة تقف سدًّا في وجه مطلب الناس في التغيير، والمعنى أنّ المستقبل السوريَّ لم يعد يقتصر على توازناتٍ داخليّةٍ صرفة، فقد أفضى طول أمد الصراع الدامي وحالة العنف المفرط والإنهاك الذي أصاب القوى العسكريّة والسياسيّة وتسارع التدهور الاقتصاديّ، إلى استجرار أدوارٍ خارجيّةٍ واسعة.

ثانيًا، حساسيّة الموقف الإسرائيليّ، وهنا نستطيع القول، وللأسف، إنّ لإسرائيل كلمةً قويّةً حول مستقبل بلدٍ يجاورها وتحتلّ جزءًا من أرضه، وقد حافظ نظامه على جبهة الجولان آمنةً ومستقرّةً طوال عقود، والمغزى هو أولويّة ما يمكن أن يترتّب على أيِّ تغييرٍ في سورية على أمن إسرائيل. وكلّنا يذكر، في أزماتٍ سوريّةٍ سابقة، وضوح الرغبة الإسرائيليّة في عدم إسقاط النظام والتي لا تتعارض مع سعيها الحثيث لإضعافه وتحجيم نفوذه الإقليميّ. وبعبارةٍ أخرى يصحّ في قراءة الإستراتيجيّة الأمنيّة الإسرائيليّة المثل القائل “من تعرفه خيرٌ من الذي تتعرّف إليه”، فهي تخشى وصول سلطةٍ جديدةٍ إلى الحكم تهزّ الاستقرار الراهن، بينما أمامها سلطةٌ خبرتها جيّدًا وأظهرت وفاءً بعهودها منذ توقيع اتفاقيّة فصل القوّات ووقف إطلاق النار عام 1974. ولا يغيّر من هذه الحقيقة حصول مناوشاتٍ بين الطرفين عبر ساحاتٍ وقوى جانبيّة في حروبٍ محدودةٍ ولأهدافٍ سياسيّة آنيّة، بل ما قد يعزّز الخيار الإسرائيليّ حضور مزاجٍ سياسيٍّ للحراك الثوريّ السوريّ يميل في المحصّلة لمعاداة ممارساتها في فلسطين والمنطقة.

ثالثًا، خصوصيّة انتماء النظام السوريّ إلى نوع الأنظمة العاجزة عن تقديم التنازلات والتي لا تقبل أيّ مساومةٍ على بقائها أو أيّ تعديلاتٍ في تركيبتها، والمرجّح أن تخوض معركتها في الحكم إلى النهاية كمعركة وجودٍ أو لا وجود، وأن تتصرّف أركانها وكأنّ ليس من رادعٍ يردعها في توظيف مختلف أدوات القمع والفتك في رهانٍ واهمٍ على إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، ربطًا بالإصرار على إنكار مشروعيّة حراك الناس ومطلبهم في التغيير السياسيّ وتصويرهم كأدواتٍ طائفيّةٍ ومتآمرةٍ يحلّ سحقهم، بما في ذلك استخدام العقاب الجماعيّ والتنكيل العشوائيّ لإبادة البيئة الاجتماعيّة الحاضنة للتغيير.

رابعًا، التنوّع والتعدّدية الإثنيّة والدينيّة والطائفيّة التي يتشكّل منها المجتمع السوريّ، وتاليًا تفاوت مواقف هذه المكوّنات من عمليّة التغيير وآفاقها، وتحديدًا خوف بعضها على هويّته ونمط عيشه من بديلٍ إسلامويٍّ قادم، ربطًا بوضوح دور القوى الإسلامويّة والوزن الكبير الذي حازته خلال تطوّر الصراع الدامي والتصريحات غير المسؤولة لبعض قياديّيها عن أولويّة أسلمة الدولة والمجتمع واستهتارهم بشعارات الثورة ومطالب الناس، ما يفسّر في ضوء مسار الصراع القائم وطابع الكتلة الشعبيّة المشاركة فيها، بقاء قطاعاتٍ مهمّةٍ من الشعب السوريّ في وضع الحياد والسلبيّة، ولنقل متردّدة أو محجمة عن الانخراط في التغيير، بسبب تنامي مخاوفها، كأقليّات، من خطر وصول الإسلاميّين إلى سدّة السلطة، ومن مظاهر التضييق والتنميط المرافقة عادة لهذا النوع من الحكومات. الأمر الذي يعقّد شروط نضال السوريّين ويضعف قدرتهم على اجتراح التغيير، فكيف الحال وقد فتح مناخ العنف وانكشاف الصراع الطائفيّ الباب أمام المجموعات الدينيّة المتشدّدة وعناصر السلفيّة والجهاديّين كي تنتزع حيّزًا مهمًّا في المشهد. وهؤلاء، مع الاعتراف باستعدادهم العالي للتضحية والشهادة، هم الأبعد سياسيًّا عن شعارات الحريّة والديمقراطيّة، والأكثر استسهالًا للتجاوزات والأعمال الانتقاميّة. وزاد الأمر تعقيدًا تكاثر أعداد المقاتلين الوافدين من الخارج وتدخّل المال السياسيّ في تمويل بعضها، ولاسيّما الأكثر تطرّفًا.

خامسًا، ما يطيل آلام المخاض واقع المعارضة السوريّة وما تعانيه من تشتّتٍ وضعفٍ، والأهمّ عجزها عن إظهار صورةٍ مقبولةٍ ومطمئنةٍ لكلّ مكوّنات المجتمع يمكن أن تشجّع المتردّدين وتزيل ما يكتنف المشهد من التباسات. والمعنى أنّ المعارضة السياسيّة لا تزال عاجزةً إلى الآن عن تأدية الدور القائد أو على الأقلّ مواكبة معاناة الشعب السوريّ وهمومه، ومقصّرة في بناء قنواتٍ للتواصل والتفاعل معه ومدّه بأسباب الدعم والاستمرار. وللأسف لن تنجح المعارضة السوريّة في معالجة هذه الثغرة ونيل ثقة الناس وقيادة مشروعهم في التغيير الديمقراطيّ، ما دامت لم تنجح في إظهار نفسها كقدوةٍ حسنةٍ في المثابرة والتضحية وفي إطلاق المبادرات لتمكين الحراك الشعبيّ وتغذيته بالخبرات السياسيّة والمعرفيّة، وما دامت أعداد كوادرها تزداد في المهجر بينما تزداد الحاجة إليهم في المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة لتنظيم الحياة والأمن هناك، وخلق نمط من التعاضد لتقاسم شحّ الإمكانات المعيشيّة، وأيضًا للحدّ من التجاوزات والخروقات وروح الثأر والانتقام التي تنشأ في ظلِّ غياب دور الدولة والقانون، ولمحاصرة التعصّب والانحرافات الطفوليّة الحالمة بانتصارٍ سريعٍ وتقاسم الغنائم. والأهمّ لإعادة الوجه الأخلاقيّ للثورة، ليس من زاوية معالجة العنف وتداعياته فحسب، وإنّما أيضًا من زاوية رفع قيمة الإنسان، كروحٍ وذاتٍ حرّة، ووضعها في الموضع الذي يليق بها، والمجالدة لضرب المثل في الالتزام بسلوكٍ ينسجم مع شعار الحريّة ويبدي أعلى درجات الاستعداد للتسامح واحترام التنوّع والتعدّديّة وحقّ الاختلاف.

يبدو أنّ زمن التغيير الديمقراطيّ سيكون ثقيلًا جدًّا في سورية، فهو حتى الآن مكتظٌّ بالضحايا والآلام وبمعاناةٍ ومكابدةٍ مستمرّةٍ لم يشهد شعبٌ ثائرٌ لها مثيلًا. لكن ما قد يخفّف من وطأته وثقله، وعي التعقيدات والصعوبات المحيطة به، والثقة بجدوى المثابرة لتجاوزها أو على الأقلّ التخفيف من آثارها.

والحال، يخطئ من يعتقد أنّ الثورة ومشروعها في التغيير الديمقراطيّ لا يمكن أن تهزم أو تشوّه، وإن هزمت لا تعود ثورةً أو لا تستحقّ هذا الاسم. ففي التاريخ أمثلةٌ كثيرةٌ عن ثوراتٍ حقيقيّةٍ وشاملةٍ ومشروعةٍ هُزمت مؤقّتًا، والأنكى من ذلك، أن تلي الهزيمة مرحلة دمويّة وسوداء يقاسي فيها الشعب الثائر الأمرّين قبل أن يتمثّل الدروس وينهض من جديد.

ويخطئ أيضًا، من يعتقد أنّ ما تمّت مراكمته على طريق التغيير يقتصر على الوجه السياسيّ ومجرّد التعبئة لإسقاط نظام الحكم القائم، لأنّه يمتدّ ليشمل مختلف جوانب الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة والأخلاقيّة، مؤسّسًا لقطيعةٍ مع عشرات السنين من الوصاية والاستبداد ومن منظومة الخوف والرهاب ومن الإفراط المرير في الإهانة والإذلال والاحتقار. تراكم لم يوقظ الشعب السوريّ فحسب، وإنّما أعاد بناء ثقته بنفسه، مغذّيًا شعوره بالانتماء الإنسانيّ ومثيرًا في أرواح أبنائه مكامن الحريّة والخير والعدل والإيثار والتضحية.