تحليل سياسات - تقدير موقف

تغيّرات المشهد السياسيّ – إشكاليّة التمثيل والرهانات الخاسرة

مقدمة:
مع دخول الثورة السوريّة عامَها الرابع، يبدو المشهدُ السياسيُّ لقوى المعارضة السوريّة مفتّتاً ومنقسماً. تتقاذفه سماتُ التعطيل والعطالة والاستقطاب، بينما تمضي الثورة السوريّة وحيدةً ويتيمةً، أمام الممارسات الفاشيّة للنظام الأسديّ، وأمام ممارسات المجاميع المسلّحة المتطرّفة، التي تمتلك أجنداتٍ وأهدافاً بعيدةً عن أهداف الثورة في الحرية والتحرّرية، وبناء سورية جديدة، تعدديّة وديمقراطيّة، تنهض على مبادئ المواطنة وحقوق الإنسان.
ما أحاوله في هذه الدراسة هو دراسة المشهد السياسيّ المعارض، بتحوّلاته وتعبيراته وتشكيلاته، بناءً على إشكاليّة التمثيل، بمعناه النقديِّ السياسيّ، انطلاقاً من فرضيّة أن التشكيلات السياسيّة للمعارضة السوريّة، نهضت على أساس الادّعاء بشرعيّة تمثيل ثورة السوريّين، لكنها لم تتمكن من التمثيل السياسيّ لها، الأمر الذي يطرح إشكاليّةً تحتاج إلى معالجةٍ حقيقية، وفهمٍ للتمثيل، بوصفه يمتلك طابعاً مستعصياً ومركباً، وآليّةً من آليّات الهيمنة والإخضاع والضبط وإعادة إنتاج السلطة لنفسها. وقد لجأت تشكيلات المعارضة السياسيّة إلى التمثيل من أجل ضمان سطوتها وسيطرتها على باقي المعارضين، وعلى جمهور المحتجين، مع أن التمثيل السياسيَّ للثورة، يتطلّب إدارةً وعملاً شاقاً، وقدراتٍ وخبراتٍ وطاقاتٍ سياسيّةً من طرف الممثلين السياسيّين، تصبُّ جميعها في سبيل تشكيل مظلّةٍ سياسيّةٍ للثورة.
لا تقترب الدراسة من التأريخ للتشكيلات السياسيّة، على الرغم من إبرازها السياق الزمنيّ لتأسيس أو تشكيل مختلف تكوينات المعارضة، ذلك أن الإشكاليّة، التي تعالجها، تتصل بمحاولة تلمّس أسباب إخفاق المعارضة، وهي عديدةٌ، يتصل بعضها بالموضوعيّ، وبعضها الآخر بالذاتيّ، ولا تبتعد عن مسألة تطبيق مبدأ التمثيل، الذي يقتضي توفّر إمكانيّة العمل الدؤوب للوصول إلى تحقيق تطلّعات غالبيّة السوريّين بإسقاط نظام الاستبداد، والأخذ بأيديهم في جميع القضايا والمسائل، إضافةً إلى التعامل مع المتغيّرات، والمستجدات، في الداخل والخارج.
1- عودة السياسة:
كشف مشهد الثورة الشعبيّة في سوريا، وتطوّراتها، عن متغيّراتٍ وتطوّراتٍ هامّة وجديدة، لعلّ أبرزها عودة السياسة إلى المجتمع السوريّ، بعد أن غُيّبت على مدى ما يزيد على أربعة عقودٍ من الزمن، حيث أفرزت الثورة السوريّة أشكالاً جديدةً من التنظيم والتحشيد، تمثّلت في تشكيل شبكاتٍ إعلاميّةٍ واتحاداتٍ وتنسيقيّاتٍ في مختلف المدن والبلدات والقرى السوريّة، وفي نشوء هياكل وأجسامٍ سياسيّة، وعودة الروح إلى أحزاب المعارضة السياسيّة التقليديّة، فالتحق معظمها بالحراك الاحتجاجيّ، وارتفع صوتها بعد أن عرفت فتراتٍ من المضايقات والملاحقات والسجون، ومراحل أخرى من الصمت والترقّب الطويلين.
وأفرز التغيّر الجديد في المشهد السياسيّ السوريّ قوىً وهيئاتٍ وتشكيلاتٍ جديدةً في المعارضة السوريّة، حيث عُقدت لقاءاتٌ ومؤتمراتٌ عديدة، في داخل سوريا وخارجها، بهدف توحيد صفوف المعارضة، إذ بعد مؤتمري أنطاليا( ) وبروكسل( )، شهدت العاصمة دمشق، لأول مرّةٍ منذ عقود، عقد لقاءٍ تشاوريٍّ لمجموعةٍ من المثقفين والمعارضين المستقلين في فندق “سمير أميس”( )، ثم عُقد لقاءٌ تنسيقيٌّ لمجموعةٍ من الأحزاب والشخصيّات المعارضة، تمخّض عنه تشكيل “هيئة تنسيقٍ وطنيٍّ لقوى التغيير الديمقراطيّ في سوريا”. ثم جرى، بعد سلسلةٍ من اللقاءات والمؤتمرات، خارج سوريا، تشكيل “المجلس الوطني السوري”.
ويمكن رسم خريطةٍ للأحزاب والقوى السياسيّة المعارضة في سوريا وفق مستويين: الأول يضمُّ الهيئات والقوى الجديدة، التي نتجت عن حراك الثورة السوريّة أو بفعله وتأثيره، والثاني يضمُّ قوى المعارضة التقليديّة. علماً بأن النظام السوريَّ شكّل في بداية سبعينيات القرن العشرين المنصرم تحالفاً سمّاه “الجبهة الوطنيّة التقدميّة” ، قادها حزب البعث، الذي احتكر الحياة السياسيّة في سوريا، وأراد من خلالها النظام الإيحاء بأن هناك أحزاباً معارضة في سوريا، وأنها ممثلةٌ في الحكم.
وتجسّدت التشكيلات والقوى الجديدة في التنسيقيّات واللجان والهيئات التي تعمل على الأرض، ونشأت بعد 15 آذار/ مارس 2011، تاريخ بدء الحراك الاحتجاجيّ الشعبيّ السلميّ في سوريا، وكذلك الهيئات والتيارات والتجمّعات السياسيّة، التي تشكّلت -أيضاً- بعد بدء الثورة، فيما يعود تاريخ نشأة معظم أحزابها ومكوّناتها إلى ما قبل الثورة.
2- التنسيقيّات:
تتكون التنسيقيّات بشكلٍ عامٍّ من شبابٍ متعلّمٍ ومثقفين، ونشطاء المجال أو الفضاء العامّ، من سياسيّين وحقوقيّين، ومختلف الطامحين إلى التغيير السلميِّ الديموقراطيّ في سوريا، ومعظمهم يتعامل مع وسائل التقنيّة الحديثة بمهارةٍ واقتدار. وخرج العديد منهم في وقفاتٍ تضامنيّةٍ مع الثورة الليبيّة، أمام السفارة الليبيّة قبل اندلاع الانتفاضة، وكذلك أمام السفارة المصريّة، تضامناً مع الثورة المصريّة، وأمام وزارة الداخليّة في دمشق، وأشعلوا الشموع في ساحة “باب توما”، وجرى اعتقال العديد منهم.
ويرجع ظهور أغلب التنسيقيّات إلى أوائل شهر أيار/ مايو 2011، ونشأت في ضوء الحاجة الملحّة إلى قيادة وتنظيم المظاهرات ومختلف فعاليّات الحراك الاحتجاجيّ الشعبيّ، الذي بدأ عفويّاً، دون قيادةٍ سياسيّةٍ أو تنظيميّة، وانخرطت فيه قطاعاتٌ واسعةٌ من المتضرّرين من ممارسات النظام. ومعظم هؤلاء لا يمتلكون خلفيّاتٍ أيديولوجيّةً، ولا ينتمون إلى أحزاب المعارضة التقليديّة، لكن ذلك لا يعني عدم انخراط العديد ممن ينتمون إلى أحزاب المعارضة التقليديّة في هذه التنسيقيّات، ولاسيّما الشباب منهم، إضافة إلى الذين تعرّضوا إلى الاعتقال والسجن والملاحقة والتهديد وإسكات أصواتهم.
واللافت هو تكييف شباب التنسيقيّات لأدوات التواصل الإلكترونيّة والمعلوماتيّة وتسخيرها في خدمة الحراك الاحتجاجيّ، سواء من خلال التحشيد وتصميم الشعارات أم من خلال تحقيق إجماعٍ احتجاجيٍّ عامّ، بعيداً عن قيود ورقابة أجهزة النظام الحاكم، ومن ثَمّ ظهرت أجيالٌ جديدةٌ، يحرّكها قادةٌ من الشباب أنفسهم، لا ينتمون إلى حزبٍ معيّن، ولا يعتنقون إيدولوجيّةً معيّنةً، ويحذوهم الإحساس العميق للخلاص من الظلم والإذلال والإحباط واليأس وانعدام الأمل بإصلاح الأوضاع القائمة.
وتتألف التنسيقيّة من مجموعاتٍ من الشباب المتطوّعين، الذين يتقاسمون العمل، بحسب تخصّص ومهارة كلِّ واحدٍ منهم، وشكّل معظمها ما يشبه المكاتب التنظيميّة والإعلاميّة والإغاثيّة، وصمّم صفحاتٍ إعلاميّةً على الفيس بوك، تدعو إلى التظاهر، وتحدّد أماكن خروجها وسيرها، وبعض الصفحات الإعلاميّة يرجع إنشاؤها إلى قبل 15 آذار/ مارس، ومن بينها صفحة “الثورة السوريّة ضدَّ بشار الأسد” التي دعت للتظاهر لأول مرةٍ في 5 شباط/ فبراير2011( )، ولم يستجبْ لدعوتها أحد.
وتقوم الشبكات الإعلاميّة ميدانيّاً بتصوير المظاهرات، ونقلها على اليوتيوب وصفحات الفيس بوك، وإرسالها إلى مختلف الوسائل الإعلاميّة العربيّة والعالميّة، وإلى لجان ومنظمات حقوق الإنسان.
ويقوم نشطاء التنسيقيّات باختيار وكتابة اللافتات والشعارات، وتنظيم مسار التظاهرات، إضافةً إلى تأمين بعض حاجات عائلات الشهداء، وجمع الدعم الماديّ لها، وتأمين وإسعاف الجرحى، وتوفير الأدوية ومتطلّبات المشافي الميدانيّة، البديلة من المشافي الحكوميّة، نظراً لتعرّض الجرحى فيها إلى القتل والاختطاف، وسوى ذلك.
ولا شكَّ في أن التنسيقيّات هي الشكل التنظيميّ المناسب للحراك الاحتجاجيّ، والفاعلة ميدانيّاً، وشكلت البديل الميدانيَّ والعمليّ لمختلف الأحزاب والتنظيمات السياسيّة المعارضة، حيث تجاوزتها كثيراً في العمل على الأرض، وفي التنظيم والتحشيد واستخدام التقنيّات ووسائل الاتصال الحديثة، التي تفتقر إلى توظيفها واستخدامها معظم الأحزاب السياسيّة السوريّة. وقد تعرّض العديد من أعضاء التنسيقيّات إلى الاعتقال والتعذيب والتصفية الجسديّة، حيث ركزت أجهزة الأمن على ملاحقتهم واعتقالهم وإسكاتهم، وعلى ملاحقة جميع شباب الحراك المدنيّ والسلميّ.
وانتشرت لجانُ التنسيق بكثرةٍ في مختلف أحياء المدن، وينطبق ذلك على سائر البلدات والقرى السوريّة، من محافظة درعا جنوباً إلى القامشلي شمالاً، ومن اللاذقية ومختلف مناطق الساحل وصولاً إلى البوكمال شرقاً. ومع تصاعد وتيرة الاحتجاجات، بذل نشطاء الثورة جهوداً لتنسيق العمل بين مختلف التنسيقيّات، فتشكّلت هيئاتٌ عديدةٌ، لعل أهمّها: اتحاد تنسيقيّات الثورة السوريّة( )، ويضمُّ أكثر من ستين تنسيقيّةً على مستوى سوريا، ولجان التنسيق المحليّة( )، ثم تشكّلت الهيئة العامّة للثورة السوريّة( ) التي ضمّت أكثر من أربعمئة تنسيقيّةٍ عند تشكيلها. كما تشكّل المجلس الأعلى لقيادة الثورة السوريّة( ).
3- تشكيلات جديدة:
وُجدت أحزابُ المعارضة التقليديّة السوريّة، بمختلف أطيافها الليبراليّة واليساريّة والقوميّة والإسلاميّة، في حالٍ لا تُحسد عليها منذ بداية الثورة، كونها لم تشارك في اندلاع شرارتها، بل كانت تتساءل وتبحث عن أسباب تأخّر الشباب السوريّ، وعدم تأثّره بثورتي تونس ومصر، وتتذرّع بخصوصيّة الحالة السوريّة، من نظامٍ وتركيبةٍ اجتماعيّةٍ وسياسيّةٍ، ثم عندما بدأت الثورة تردّدت -في البداية- في المشاركة بفعاليّاتها، لكنها تنطّعت فيما بعد لمهمّة تمثيل الثورة.
ومع ازدياد زخم الحراك الاحتجاجيّ الثوريّ، الذي ازداد زخمه مع تزايد نزيف دماء المحتجّين، اقتصرت مشاركة بعض الأحزاب على الشباب المتحمّسين، الذين تصرّفوا بشكلٍ فرديٍّ، ثم أعلنت بعض قوى “ربيع دمشق”( )، عن مشاركتها في الحراك الاحتجاجيّ، إضافةً إلى إعلان قوىً سياسيّةٍ أخرى دعمها للحراك الاحتجاجيّ.
ووجدت قياداتُ المعارضة السياسيّة التقليديّة نفسها، وكأن القطارَ قد فاتها، وأنها كانت تنتظر في المحطة الخاطئة، التي غادرها، فراحت تحثُّ الخطى كي تلحق بالثورة، وتستعجل عقد اللقاءات والمؤتمرات، في الداخل والخارج، وبشكلٍ ينمُّ عن افتقارها للخبرة السياسيّة ولوضوح الرؤية، كونها باتت تعلم أن عليها رفع شعار إسقاط النظام، الذي يرفعه المحتجّون في الشوارع السوريّة، بكلِّ ما يعنيه، وهو أمرٌ لم يكُ في حسبانها، ولم تدرجه في برامجها المتقادمة. كما أنها لم تكُ قادرةً تماماً على مجاراة ما يطالب به المنتفضون، كونه يحدُّ من قدرتها على القيام بدورها السياسيِّ، وعلى الإمساك بزمام المبادرة السياسيّة. كما أنها لم تتمكّن من نسج علاقاتٍ وروابطَ كافيةٍ مع مختلف التنسيقيّات، والقوى التي تتحرك على الأرض.
وألقت الثورة مهامَّ جديدةً على المعارضة السورية، وكان أكثرها إلحاحاً هو تمثيل الثورة، من خلال تشكيل مجلسٍ أو ائتلافٍ سياسيٍّ يجمع جهود عملها وتوجّهاتها، ويشكل رافعةً سياسيّةً لحراك المنتفضين ومطالبهم في نيل الحرية والكرامة، إضافةً إلى العمل السياسيّ على الأرض والتواصل مع نشطاء التنسيقيّات، ومهامّ أخرى عديدة. ولم تكُ أحزاب المعارضة التقليديّة قادرةً، بسبب الغياب القسريّ عن العمل السياسيّ، على الاستجابة لمتطلّبات العمل السياسيِّ الجديد، كما لم تتمكن من التواصل مع الميدان، بسبب بنية أحزابها المترهّلة. وبدا على أحزابها الارتباك والاستعجال، فيما يزاداد الحراك زخماً، فراح بعض الناشطين من الأحزاب التقليديّة، إضافةً إلى النشطاء المستقلّين والمثقفين، يبحثون عن صيغةٍ مناسبةٍ لتوحيد صفوف المعارضة.
وفي سياق تحوّلات المشهد السياسيّ السوريّ، نشأت تشكيلاتٌ معارضةٌ، ذات فعاليّةٍ محدودة في المشهد السياسيِّ العامِّ، وبعضها مكوّنٌ من عددٍ من الشخصيّات المعارضة المستقلّة والثقافيّة، مثل “حركة معاً من أجل سورية حرّة ديموقراطيّة”( )، و”تيار مواطنة”( ) و”تيار بناء الدولة السوريّة”( )، و”تجمّع نبض للشباب المدنيّ السوريّ”( )، و”ائتلاف اليسار السوريّ”( )، و”رابطة العلمانيّين السوريّين”( ) و”تيار التغيير الوطنيّ”( ) والمنبر الديمقراطيّ”( ) وسواها.
وظهرت -أيضاً- تشكيلاتٌ معارضةٌ قريبةٌ من النظام، ومدعومةٌ من طرفه، بل وتزاود على أطروحاته، مثل: “الجبهة الشعبيّة للتغيير والتحرير”، المكوّنة من “اللجنة الوطنيّة لوحدة الشيوعيّين”، المنشقة عن الحزب الشيوعيِّ السوريّ، و”الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ – الانتفاضة”، المنشقّ عن الحزب القوميّ السوريّ. وظهرت في هذا السياق، أيضاً، “أمانة إعلان حلب للثوابت الوطنيّة”، وجماعة “الطريق الثالث”، و”المبادرة الوطنيّة للديموقراطيّة”، و”التيار الوطنيّ السوريّ”. وهي تشكيلاتٌ ليس لها تواجدٌ فعليٌّ، وبعضها انتهى بعيد تأسيسه بفترةٍ قليلة.
غير أن أهمَّ التشكيلات السياسيّة المعارضة الجديدة، هي: المجلس الوطنيُّ السوريّ، وهيئة التنسيق الوطنيّ للتغيير الديموقراطيّ في سوريا، والائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة.

3-1- المجلس الوطنيّ السوري:
شكل توحيدُ المعارضة السوريّة في مجلسٍ، أو هيئةٍ ائتلافيّة، مطلباً ملحّاً لحراك السوريّين، لدرجة أنهم أطلقوا تسمية جمعة “وحدة المعارضة” بتاريخ 23 أيلول/سبتمبر 2011( ). وفي محصلة الجهود التي بذلت، عُقدت لقاءاتٌ مكثّفةٌ في إسطنبول، نجم عنها الإعلان عن تشكيل “المجلس الوطنيّ السوريّ” بتاريخ 2 تشرين الأوّل/أكتوبر 2011، واعتبر في بيانه التأسيسيِّ أنه يمثّل “العنوان الرئيس للثورة السوريّة، ويمثلها في الداخل والخارج، ويعمل على تعبئة جميع فئات الشعب السوريّ وتوفير كلِّ أنواع الدعم اللازم من أجل تقدّم الثورة وتحقيق آمال وتطلّعات شعبنا بإسقاط النظام القائم بكلِّ أركانه ورموزه بما فيه رأس النظام”. وحدّد أهدافه في العمل على إسقاط النظام بكلِّ رموزه وعلى رأسه بشار الأسد، الالتزام بمطالب الحراك الثوريّ ورفض الحوار مع النظام، بناء الدولة المدنيّة الديموقراطيّة في سورية.
وكان المأمول أن يمثّلَ المجلسُ إطاراً جامعاً لمختلف تشكيلات وقوى وأحزاب المعارضة السورية، ومع ذلك، فإن أهمَّ ما تمخّض عنه المشهد السياسيُّ المعارض، بعد عقد عددٍ من اللقاءات والمؤتمرات داخل سوريا وخارجها، وهو تشكيل المجلس الوطنيّ السوريّ، الذي انضمّت إليه قوىً أساسيّةٌ وفاعلةٌ على الأرض إلى جانب شخصيّاتٍ مستقلةٍ، فكريّة وثقافيّة.
وتشكل المجلسُ من بعض الشخصيّات المستقلّة، والتيار الإسلاميّ المستقلّ ومجموعة العمل الوطنيّ، وممثّلين عن قوى الحراك في الداخل، لم تُعلن أسماؤهم، وعن “إعلان دمشق للتغيير الديموقراطي”، وتيار المستقبل الكرديّ. إضافةً إلى حزبين كرديّين آخرين، وجماعة “الإخوان المسلمين” في سوريا، والمنظمة الآثوريّة الديموقراطيّة، وشكل المجلس أمانةً عامّةً له ومكتباً تنفيذياً.
ويتكوّن كلٌّ من التيار الإسلاميِّ المستقلّ ومجموعة العمل الوطنيّ من شخصيّاتٍ، معظمها إسلاميّةٌ، غير حزبيّةٍ، تعمل خارج سوريا، وأعلنت عن إنشاء “المجلس الوطنيّ السوريّ المؤقّت” في إسطنبول بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر 2011، لكنه سرعان ما انتهى بعيد تشكيله.
وحظي المجلس الوطنيُّ السوريّ بتأييدٍ كبيرٍ في الداخل السوريّ، ولاسيّما بين أوساط المحتجّين، حيث رفعوا في تظاهراتهم لافتاتٍ تؤيّد المجلس، وسمّوا يوم الجمعة 17/10/2011 جمعة “المجلس الوطني يمثلني”. وأيّدته مختلف التنسيقيّات، ولاسيّما الهيئة العامّة للثورة السوريّة ولجان التنسيق المحليّة، بوصفه العنوانَ الرئيس الذي يمثّلهم، ويترجم أطروحاتهم سياسيّاً.
وفي الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر 2011، أصدر المجلس مشروعَ برنامجه السياسيّ، اعتبر فيه أن المجلسَ هو مؤسّسةٌ سياسيّةٌ اعتباريّة، تمثّل معظم القوى السياسيّة السوريّة المعارضة للنظام، وقوى الحراك الثوريّ، ويعمل كمظلّةٍ وطنيّةٍ عامّةٍ مؤقّتة، تعبّر عن إرادة الشعب في الثورة والتغيير.

3-2- هيئة التنسيق:
عقدت هيئة التنسيق الوطنيّ مؤتمرها الأوّل في 17 أيلول/سبتمبر 2011، تحت لاءاتٍ ثلاثة ” لا للتدخل الأجنبيِّ، لا للعنف، لا للطائفيّة”، ونتج عن المؤتمر تشكيل لجنةٍ مركزيّةٍ، ضمّت 80 عضواً، إضافةً إلى بيانٍ ختاميٍّ، رأى أن المخرج “من الأزمة الراهنة”، هو “عقد مؤتمرٍ وطنيٍّ عامٍّ وشامل”، ويحتاج إلى إطلاق حوارٍ جادٍّ ومسؤولٍ يبدأ بتهيئة البيئة والمناخات المناسبة ليكتسبَ مصداقيته والثقة به”. وطالب النظام السوريّ بالإقرار “بالطبيعة الشاملة للأزمة الوطنيّة” و”الاعتراف بالانتفاضة”، وذلك من خلال “وقف الخيار الأمنيّ- العسكريّ”، و”الإفراج عن جميع الموقوفين منذ انطلاقة الانتفاضة، وعن جميع المعتقلين السياسيّين قبل هذا التاريخ”.
وأصدرت الهيئة وثيقةً، في 8/10/2011، تتضمّن رؤيتها للمرحلة الانتقاليّة في سوريا من الاستبداد إلى الديمقرطيّة. وهي بمنزلة ورقةٍ موسّعةٍ لوثيقة التأسيس، ولم تخرج فيها عن المطالب ذاتها. وقد انسحبت شخصيّاتٌ وقوىً سياسيّةٌ عديدةٌ من هيئة التنسيق، مثل تيار معاً، وعدد من التنسيقيّات، وانشقت أيضاً مجموعةٌ هامّةٌ من حزب الاتحاد الاشتراكيّ، وأعلنت تأييدها للمجلس الوطنيِّ السوريّ.
ولم تنظم هيئة التنسيق فعاليّاتٍ احتجاجيّةً على الأرض، إلا فيما ندر، واكتفت بصلاتها مع بعض النشطاء، الأمر الذي جعلها لا تمتلك فاعليّةً في أحداث الثورة. ربما، لأنها استنسخت بنية ونمط الحزب التقليديّ المترهّل، فضلاً عن الهوّة في التفكير والعمل ما بين مكوّناتها الحزبيّة وبين الشخصيّات المستقلّة، وما بين قياداتها المتقدّمة في العمر وبين شبابها المنخرط في فعاليات الانتفاضة.
4- تكريس الانقسام:
قامت هيئة التنسيق على أساس تكريس الانقسام ما بين معارضة الداخل والخارج، وادّعاء تمثيل المعارضة السوريّة في الداخل، لكن العديد من القوى والأحزاب الفاعلة في الداخل السوريّ والمشاركة في الثورة لم تنضمَّ إليها، مثل معظم قوى وأحزاب “إعلان دمشق”، ولاسيّما “حزب الشعب” الذي يعتبر أحد المكوّنات الرئيسة في “التجمّع الوطنيّ الديموقراطيّ”، بينما أعلنت انضمامها وتأييدها للمجلس الوطنيِّ السوريّ. كما أن معظمَ الأحزاب الكرديّة، لا تشارك في الهيئة، على الرغم من مساهمتها في صياغة وثيقتها التأسيسيّة، واقتصرت المشاركة الكرديّة فيها على حزب الاتحاد الديمقراطيّ الكرديّ، الذي تنحدر أصوله من حزب العمّال الكردستانيّ (PPK)، والذي دخل في تحالفٍ إستراتيجيٍّ مع النظام السوريّ، وذلك على خلفيّة العداء لتركيا، والوقوف ضدَّ الموقف التركيِّ من الوضع في سوريا.
ولم تنضمَّ هيئة التنسيق الوطنيّ لقوى التغيير الديموقراطيّ إلى المجلس الوطنيِّ السوريّ، ولا إلى الائتلاف الوطنيّ، بالنظر إلى عدّة أسبابٍ موضوعيّةٍ وشخصيّة، لكن عدم انضمامها أعلن عن انقسامٍ فكريٍّ وسياسيٍّ واضحٍ في المعارضة السوريّة، ما بين القوى والشخصيّات الليبراليّة والإسلاميّة التي تشكّل منها المجلس الوطنيّ، وبين الشخصيّات والقوى والأحزاب القوميّة التي انضوت إلى هيئة التنسيق، بمعنى أن الانقسام بُنِيَ على خلفيّاتٍ وأسسٍ سياسيّةٍ وإيديولوجيّة، ما بين الليبراليّين والإسلاميّين وبين القوميّين وبقايا اليساريّين، لذلك ليس صحيحاً التصنيف الذي بني على أساسه التقسيم السائد ما بين “معارضة الداخل” و”معارضة الخارج”، لأنه تقسيمٌ إجرائيٌّ أكثر من كونه منهجيّاً وسياسيّاً، ذلك أن العديد من المعارضين السوريّين غادروا بلدهم هاربين ومكرهين، ومن بينهم من غادرها بعد اندلاع الثورة.
ومن حقِّ جميع السوريّين، أينما وُجدوا، المشاركة في أيِّ نشاطٍ سياسيٍّ، كما أنه من الطبيعيّ أن يكون لأيِّ مجلسٍ أو هيئةٍ أو حزبٍ ممثلون ومناصرون في الداخل والخارج، ومن ثمّة، ليس مجدياً تحميلُ التقسيم الإجرائيّ بحمولات وسائل الإعلام وبعض الكتابات والدراسات. يضاف إلى ذلك أن المجلس الوطنيَّ، استطاع في بداية تشكيله، أن يحظى بتأييد معظم الناشطين وممثلي التنسيقيّات، وأن يعبّرَ عن مطالب شباب الثورة أكثر ممّا تعبّر عنه هيئة التنسيق، لكنَّ الفارق الهامَّ هو أن الهيئة وجهت لاءاتها الثلاث نحو الحراك الثوريّ، وليس نحو النظام، واكتفت بالمطالبة اللفظيّة بإسقاط النظام الاستبداديّ الأمنيّ، بما فسّر بأنها تقبل الدخول في مرحلةٍ انتقاليّةٍ يبقى فيها الرئيس الأسد، فيما يطالب المجلس الوطنيّ بإسقاط النظام بكلِّ أركانه ورموزه، بما فيها رأس النظام، أما فيما يتعلّق بالتطلّع إلى بناء دولةٍ مدنيّةٍ ديمقراطيّة، فإن الجانبين متفقان.
وما يجري ليس المقصود فيه تحميل هيئة التنسيق، وحدها، مسؤوليّة تكريس الانقسام والفرقة، بل يشترك معها المجلس الوطنيّ السوريّ، والمنبر الديمقراطيّ السوري، والائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، أي إن معظم تشكيلات المعارضة السياسيّة لها دورٌ في الفرقة والتفتّت والانقسام، نظراً لأن كلَّ تشكيلٍ سياسيٍّ قام على مبدأ احتكار التمثيل، ما جعله يركن إلى التمترس خلف بنيته وهيكليّته، والاكتفاء بتوجيه الدعوة للآخرين للانضمام إليه، أو بالأحرى الانخراط في صفوفه.
4- الإخفاق والتعطيل:
يتجسّد هدفُ توحيد المعارضة في قدرتها على التوصّل إلى بنيةٍ جديدةٍ وقويّةٍ، تضع رؤيةً مشتركةً، وتشكّل قطباً ديموقراطيّاً، يوحّد الجهود ويدعم ويتواصل مع قوى الحراك، ويرتب العلاقات مع القوى العربيّةِ والدوليّة. ولم تكُ المشكلة في تنوّع الأطر السياسيّة للمعارضة السوريّة، ولا في الاختلافات الإيديولوجيّة، لكنّ أسباباً عديدةً كانت تعرقل الوصول إليه، لعلّ أهمّها:
1- حالة العطالة السياسيّة، الموروثة من عقود الاستبداد وانتفاء السياسة ومصادرتها في سوريا، والتي طبعت العمل السياسيَّ المعارض بطابعٍ من الهامشيّة، وشوّهت الفعل السياسيّ، بوصفه ممارسةً تهدف إلى تغيير الواقع، وليس موقفاً أخلاقيّاً أو مبدئيّاً فقط، الأمر الذي يفسّر تعلّق بعض المعارضين وتركيزهم على المواقف المبدئيّة فقط، مع غياب مقتضيات الفعل السياسيّ.
2- يضاف إلى ذلك غياب برنامج تغييرٍ واضحٍ لدى معظم قوى وأحزاب المعارضة، وتركيزها على الإرث الشخصيِّ لبعض رموزها التاريخيّين، الذين تحوّلوا إلى ما يشبه أجساماً محنّطة، بعد أن اطمأنوا إلى تاريخهم الذاتيّ، بل وحوّلوا السياسة إلى استثمارٍ شخصيٍّ.
3- لجوء بعض الشخصيّات المعارضة إلى سياسة تسجيل المواقف والنقاط، وسوق الاتهامات، وهدر الجهود، وتسميم الأجواء، والتركيز على شخصنة الخلافات، بما يزيد من التنابذ والفرقة.
وبيّنت تجربة تناثر تشكيلات المعارضة السوريّة، أن المشكلة ليست خلافاتٍ سياسيّةً بين تياراتٍ وقوى، بل تفشّي أمراضٍ متعدّدة الأبعاد، عملت على تثبيط فاعليّة أطرها وهيئاتها ومجالسها، حيث لم تقدّم لها الدعم الكافي، فضلاً عن عدم تمكنها من قيادة الثورة الشعبيّة الواضحة الأهداف. واكتفت قياداتُ المعارضة بترديد مطالب الناس، وما تصدح به حناجر المتظاهرين من شعارات المتظاهرين، الأمر الذي بيّن مدى انقطاعها العمليّ عن وقائع الثورة ومسارها وتحوّلاتها.
والناظر في تركيبة مختلف تشكيلات المعارضة، بما فيها المجلس الوطنيّ السوريّ، وهيئة التنسيق الوطنيّ، والمنبر الديمقراطيّ والائتلاف الوطنيّ وسواها، يجد أنها لم تنبثق من قلب الحراك الاحتجاجيِّ الثوريّ، لذلك لم تتمكّن من تمثيله فعليّاً، بل حاولت الالتصاقَ به والالتحاق بركبه دون أن تتمكّن من قيادته ومساعدته. وحتى القوى التي رفضت التدخّل الخارجيّ، ولاسيّما العسكريّ، لم تنأَ بنفسها عن التدخلات الدوليّةِ والإقليميّة في شؤونها، وفشّلت الدعم اللازم والضروري للثورة، بينما ذهب الدعمُ الماليُّ القليل الذي حصلت عليه من بعض الدول إلى مجموعاتٍ قريبةٍ منها، وتعاملت معه وفق حساباتها الضيّقة، القائمة على ضمان تأييدها.
وقد بُذلت مساعٍ عديدة مع “المجلس الوطنيِّ السوريّ”، كي يضمَّ مجموعات المعارضة الأخرى، لكنه فشل في ذلك، على الرغم من عقد عدّة اجتماعاتٍ لقوى المعارضة السوريّة، أهمّها كان مؤتمر القاهرة، الذي عُقد في الثاني والثالث من تموز/ يوليو 2012، وصدرت عنه وثائق هامّة( ).
ومع توالي جهود جمع قوى المعارضة في هيئةٍ أو ائتلافٍ جديدٍ، برزت مبادرة رياض سيف، التي عرفت باسم “المبادرة الوطنيّة السوريّة”، ولاقت قبولاً ودعماً قويّاً لدى قوىً دوليّةٍ وإقليميّةٍ وعربيّة، حيث اجتمع في لقاءٍ تشاوريٍّ في العاصمة القطريّة الدوحة، في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، ممثلون عن العديد من قوى وهيئات المعارضة السياسيّة السوريّة، إلى جانب شخصيّاتٍ مستقلّة، وممثلون عن قوى الحراك والمجالس المحليّة للمحافظات السوريّة. وبعد ثلاثة أيامٍ من الشدِّ والجذب والنقاشات والاجتماعات، اتفق المجتمعون على تشكيل “الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة”، الذي اعتبره بعضهم تحوّلاً في مسار المعارضة السوريّة.
5- رهان القوى الدوليّة:
دعمت القوى الدوليّة جهودَ توحيد المعارضة، بعد فشل محاولات توسيع وإعادة هيكلة المجلس الوطنيّ، وراهنت، على تشكيل خريطةٍ جديدةٍ للمعارضة السوريّة، استناداً إلى مسوّغاتٍ عديدةٍ، أهمّها:
1- الخشية من الفراغ الذي قد يحدثه سقوطٌ مفاجئٌ ووشيكٌ للنظام السوريّ، بناءً على التقدّم الواضح للجيش السوريِّ الحرِّ والتشكيلات العسكريّة الأخرى، وعلى حالة الإنهاك التي بات يعاني منها الجيشُ السوريُّ، بعد إقحامه في معارك الشوارع والأحياء والبلدات السوريّة، وحدوث انشقاقاتٍ متتاليةٍ ومتسارعةٍ في تركيبته. إضافة إلى اقتراب النظام من حالة الإفلاس الاقتصاديّ وتناقص الموارد الماليّة، التي يعوّض جزءاً منها الدعمُ الإيرانيّ، ودعم أطرافٍ في الحكومة العراقيّة وقوى أخرى داخليّة وخارجيّة.
2- التخوّف من حدوث حالات انفلاتٍ وفوضى نتيجة الفراغ الذي يحدثه سقوط النظام السوريّ، في ظلِّ غياب مرجعيّةٍ سياسيّةٍ مؤهلةٍ للإمساك بزمام الأمور في المرحلة الانتقاليّة، ولاسيّما مع تعدّد مرجعيّات القوى المسلّحة والمجالس العسكريّة، والخوف من حالات انتقامٍ وتصفياتٍ كبرى.
3- الخوف على مصير الأقليّات، حيث تضع الولاياتُ المتحدة الأميركيّة، ومعها الدول الأوروبيّة، في حساباتها حدوث حالات انتقامٍ من العلويّين، بسبب مواقف غالبيّتهم المساندة للنظام، والخوف كذلك على مصير المسيحيّين والدروز وسائر الأقليّات الأخرى، إضافةً إلى خشية تركيا من سيطرة عناصر “حزب العمال الكردستاني” على مناطقَ سوريّةٍ محاذيةٍ للحدود معها.
4- تخوّف الولايات المتّحدة الأميركيّة والقوى الغربيّة من تنامي قوّة بعض التشكيلات المسلّحة المتطرّفة، في ظلِّ تدفّق عناصر متشدّدة إلى سوريا، ووجود تشكيلاتٍ عسكريّةٍ مثل “جبهة النصرة” وبعض المجموعات السلفيّة المتشدّدة الصغيرة، وتواجد عناصر من تنظيم “القاعدة” في سوريا قدِموا من شمال العراق ومن أماكنَ أخرى، والخشية من أن تتحوّل البلاد إلى دولةٍ فاشلةٍ، ومأوىً لما يسمّى بالمجموعات الإرهابيّة والمتطرفة.
5- الخوف من امتداد الأزمة السوريّة إلى دول الجوار، ولاسيّما لبنان والعراق، حيث يحاول النظامُ السوريُّ جاهداً تصدير أزمة إلى الخارج. يشهد على ذلك التوتر والمناوشات التي تشهدها الحدود التركية السوريّة، وكذلك الحدود الأردنيّة، إلى جانب الانقسام والتوتر والاحتقان الذي تعرفه الساحة اللبنانيّة.
6- الائتلاف الوطني:
ضمَّ “ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السوريّة” ممثلين عن “المجلس الوطنيّ السوريّ”، وعن “المجلس الوطنيّ السوري”، والمجالس المحليّة لجميع المحافظات السوريّة، والعديد من الشخصيّات الوطنيّة المستقلّة، وممثلاً عن الشخصيّات المنشقة عن النظام. كما ضمَّ ممثلين عن الهيئة العامّة للثورة السوريّة، ولجان التنسيق المحليّة، والمجلس الثوريّ لعشائر سوريا، ورابطة العلماء السوريّين، ورابطة الكتّاب السوريّين الأحرار، والمنتدى السوريّ للأعمال، وتيار مواطنة، وهيئة أمناء الثورة، وحركة معاً، وحزب الاتحاد الاشتراكيّ العربيّ الديمقراطيّ (جناح منشقّ عن الحزب الذي يتزعمه حسن عبد العظيم)، والكتلة الوطنيّة الديمقراطيّة السوريّة، وممثلين عن الحركة التركمانيّة الديمقراطيّة السوريّة، والكتلة الوطنيّة التركمانيّة السوريّة، وممثلاً عن المنظمة الآشوريّة الديمقراطيّة، وممثلين عن مجلس القيادة العسكريّة العليا للجيش الحرّ. وبعد توسعة الائتلاف، انضمّت “الكتلة الديمقراطيّة”، وممثلون عن الحراك المدنيّ، وعن المجالس العسكريّة للجيش الحرِّ. وأخيراً، انضمَّ ممثلون عن المكوّن الكرديّ، وهم أعضاء في أحزاب المجلس الكرديّ السوريّ، ليصبحَ العدد الإجماليّ لأعضاء الائتلاف 121 عضواً( ).
وجرى النظر إلى الائتلاف الجديد، بوصفه إطاراً يعبّئ طاقات وقوى الثورة السوريّة، يهدف إلى توفير الدعم للشعب، ويمثل توجّهات الثورة وأهدافها على الوجه الأمثل، من خلال السعي إلى عمل كلِّ ما من شأنه أن يسهمَ في قلب موازين القوى، لصالح إسقاط نظام الأسد، وانتصار الثورة على الصعيدين الداخليِّ السوريّ والخارجيّ.
وقد أكدت وثائق الائتلاف على الحفاظ على السيادة الوطنيّة، واستقلاليّة القرار الوطنيِّ السوريّ، والحفاظ على وحدة التراب الوطنيِّ السوريّ، ووحدة الشعب السوريّ، وعلى رفض الحوار مع النظام السوريّ، وألا يبدأ الحلُّ السياسيّ في سوريا، إلا بتنحية بشار الأسد، ومعه رموز السلطة القامعة، وضمان محاسبة المسؤولين منهم عن دماء السوريّين، مع التأكيد على قيام سوريا المدنيّة التعدّديّة الديمقراطيّة.

7- غصّة القلب:
بعد أن تشكّل “المجلس الوطنيُّ السوريّ”، وتشكلت “هيئة التنسيق الوطنيّ للتغيير الديمقراطيّ في سوريا”، ثم “تيار التغيير الوطنيّ” و”المنبر الديمقراطيّ” و”الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة”، وسوى ذلك كثير، انتظر الناس في الداخل أن تشكل هذه التشكيلات السياسيّة مظلةً سياسيّةً للثورة، بل تقود الثورة وتدعمها، وتؤثر على مساراتها، وتساعد ناسها، لكن، وبعد انتظارٍ مديد، تبيّن أنها باتت عالةً على الثورة بدلاً من أن تعيلها، حيث تميّزت بالتركيبات الهشّة، وبالأداء الضعيف، والتجاذبات، والمهاترات الشخصيّة، وضعف الخبرة السياسيّة، فيما عرفت الثورة تحوّلاتٍ عديدةً في مسارها، نتيجة توغّل النظام بالقتل والمجازر والجرائم، وتحوّلت من ثورة حريةٍ إلى ثورة تحرّرٍ.
وراح العديد من الناشطين والسياسيّين المستقلّين، يطرحون أسئلةً حول التشكيلات السياسيّة للمعارضة السوريّة، وعن أسباب عجزها، وعدم تمكّنها من تشكيل رافعةٍ سياسيّةٍ حقيقيّةٍ للثورة.
وتخفي تساؤلاتهم تعويلاً على قوىً وشخصيّاتٍ مغيّبةٍ، واستنكاراً لتصرّفات معظم قوى وشخصيّات المعارضة، التي تصدّرت المشهد، وتحوّلت إلى ظاهرةٍ صوتيّةٍ تلفزيونيّة. لكنها أيضاً، تساؤلاتٌ، تستنجد نصيراً مفترضاً، وتضمر خوفاً من مستقبلٍ غير واضح المعالم، ولاسيّما بعد البروز القويِّ لدور المجموعات المسلّحة الإسلاميّة المتشدّدة، وممارسات جماعة الإخوان المسلمين، الساعية إلى الهيمنة على تشكيلات المعارضة، التي حصلت على اعترافٍ دوليٍّ، مقابل ضعف أداء القوى والشخصيّات المدنيّة والديمقراطيّة، أو من تدّعي ذلك، التي اعتقدت أن المعركة هي مع الرصيف والصديق، فراحت تبحث عن وظيفةٍ، ودورٍ ذاتيٍّ، ودخلت في لعبة تسجيل المواقف، وعدّ النقاط، والاستعراض المجانيّ على شاشات الفضائيّات، فضلاً عن تجريب البراعة في النقِّ والنميمة والحديث عن صولات وجولات الذوات.
وقد سعت شخصيّاتٌ عديدةٌ أخرى، من أجل توحيد القوى الديمقراطيّة، في حزبٍ أو تكتّلٍ أو تيار، لكن جهودها، عادة، ما كانت ترتطم بعراقيل من طرف من يحسبون على القوى الديمقراطيّة، أو ممّن أصيبوا بأمراض فترة الاستبداد، من عدم القدرة على العمل المؤسّسيِّ والجماعيّ، وتمركز على الذات وتضخمها، وغير ذلك. ولعل “غصة القلب السورية”، التي تحدّث عنها كلٌّ من “بيتر هارلنغ” و”سارة بيركي”( )، يصاب بها المرء حين ينظر إلى أداء مختلف تمثيلات المعارضة السياسيّة السوريّة، والتخصيص هنا يطاول المعارضة الديمقراطيّة والليبراليّة، ومن طريقة تعاملها مع الثورة وحاضنتها الاجتماعيّة.
ولعلَّ كلَّ من يضطر إلى الخروج من سوريا من الناشطين وسواهم، يصاب بغصّات قلبٍ عديدةٍ، نتيجة ممارساتِ ومساومات وسلوكيّات معظم شخصيّات المعارضة. من غطرستها، ومن عدم اكتراثها لاستمرار تدفّق الدم السوريّ، وتفرّغها للاستعراض والشخصنات والمماحكات والمعارك الجانبيّة.
8- أسباب العجز
جاءت الثورة السوريّة كي تعيدَ طرح إشكاليّة التمثيل السياسيّ للثورات، وضرورة تأسيس تشكيلٍ سياسيٍّ، ديمقراطيٍّ، واسع الطيف والحساسيّات، داعمٍ للثورة وناسها، ولاسيّما من بروز محاولات النظام تغذيةَ وإثارة النزعات المذهبيّة والطائفيّة والمناطقيّة، والارتكاس الملحوظ نحو مختلف الانتماءات ما قبل المدنيّة. وبعد محاولاتٍ عديدةٍ خلال الأشهر الأولى من عمر الثورة، تشكّل المجلس الوطنيُّ السوريّ، وتشكل قبله وبعده هيئاتٌ ومجالسُ ومنابرُ تشبهه، أو تناكده، وليس لها سبيلٌ أو مبرّرٌ سوى التشبّث بالمتقادم من الأفكار وأساليب العمل، وممارسة فقه النكاية. أما المجلسُ الوطنيُّ السوريُّ، فكانت الآمال معلقةً عليه، لكنه أثبت عجزه عن قيادة الثورة أو تمثيلها سياسيّاً، ثم جاء تشكيل الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، ليعيد استنساخ تركيبة المجلس في أمراضه، ويزيد عليها قليلاً.
لعلّ السببَ في عجز المجلس الوطنيّ السوريّ، لا يكمن – فقط- في أمراض الفرديّة وتضخّم الذات وعدم القدرة على العمل المؤسّسي. وهي كلّها أمراضٌ حملتها شخصيّاته من فترة الاستبداد الأسديّ، بل من تركيبته، حيث قام المجلس على مبدأ التوافق، بوصفه المبدأ الأساس، وفي الوقت نفسه كان سبب العجز والفشل، لأن التوافق حصل ما بين شخصيّاتٍ تنتمي إلى حزبٍ سياسيٍّ، إسلاميٍّ تقليديٍّ، هو حزب الإخوان المسلمين، وشخصيّاتٍ أخرى تمثل بقايا تجمّعاتٍ أو أحزابٍ سياسيّةٍ، هلاميّةٍ ومتهالكة، مثل قوى إعلان دمشق، المقسوم على نفسه وعلى غيره، وحزب الشعب الذي لم يبقَ منه سوى بعض الشخصيّات التاريخيّة، وحزب العمال الثوري، الذي لم يبقَ منه سوى الاسم، وبعض المناضلين القدامى، إلى جانب قوىً كرديّةٍ وآشوريّةٍ صغيرة وشخصيّاتٍ مستقلة، بعضها معروفٌ وبعضها الآخر لا يعرفه سوى أصدقائه وأقاربه، ومعظمهم لا خبرة لديه، سوى في الحديث عن نفسه، وما قام به من بطولاتٍ خلال عهود الاستبداد.
وفي مجلسٍ، كالذي تشكل في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2011، كان لا بدَّ أن تظهر عليه هيمنة مجموعة الأشخاص المنتمين إلى حزبٍ سياسيٍّ، مثل الإخوان المسلمين، أو كتلةٍ مسيطرةٍ كالإسلاميّين أو سواهم. والشيء ذاته تكرّر في الائتلاف الوطنيّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، بل وحصل الأسوأ، ولاسيّما بعد نيل الائتلاف اعترافاً دوليّاً، حيث سيطرت عليه كتلةٌ، عُرفت باسم “كتلة الصباغ” قبل توسعة الائتلاف، ثم “كتلة ميشيل كيلو” بعد التوسعة. ولعلّ بعض السوريّين لا يخطئون حين يتحدثون عن رضوخ، أو على الأقل، ممالأة معظم الشخصيّات العلمانيّة والليبراليّة في المجلس أو الائتلاف لما يريده ويمليه ممثلو الكتل المهيمنة، ويخصّون بالذكر العديد من الشخصيّات، من أمثال برهان غليون وجورج صبرا وعبد الباسط سيدا وسواهم، حتى إن بعضهم تحدّث عن تأسلم جورج صبرا، في مفارقةٍ لا تخلو من المرارة والتندر.
كان الأمل معقوداً على أن يكون الائتلافُ مختلفاً عن المجلس، في تركيبته وفي عمله، حيث قامت الدعوة، التي نهضت عليها المبادرة الوطنيّة (مبادرة رياض سيف)، على أساسٍ شخصيٍّ، حيث دُعيت شخصيّةٌ واحدةٌ من كلِّ مكوّنٍ سياسيٍّ، وممثلٌ عن كلِّ محافظةٍ سوريّةٍ من الداخل، لكن القوى الإسلاميّة، ولاسيّما الإخوان المسلمون، والإسلاميين بشكل عام، بوصفهم أفراداً في تنظيمٍ شموليٍّ، يسعون إلى الهيمنة على الدوام، تمكنوا من التغلغل في الائتلاف بطرقٍ شتّى، كي يفرضوا ما يرونه عليه، ووصل الأمر بهم إلى درجة أنهم أتوا بأشخاصٍ عاشوا معظم سنين حياتهم خارج سوريا، وجعلوهم ممثلين عن الحراك الثوريّ لبعض مناطق الداخل السوريّ.
بالمقابل، فإن الشخصيّات العلمانيّة والليبراليّة والإسلاميّة غير الإخوانيّة، لم تتمكّن من إيجاد صيغةٍ فيما بينها من التفاهم والتوافق، لمنع هيمنة الإسلاميّين، بل أثبت معظمهم أنهم فردانيّون، ومتضخّمو الذوات، وغير قادرين على العمل الحزبيِّ والمؤسّساتيّ، وكلُّ ما يعنيهم هو تسجيل المواقف، والظهور والاستعراض على شاشات التلفزة.
وتذهب أغلب تفسيرات أسباب فشل تشكيلات المعارضة السياسيّة إلى التذرّع بحالة العطالة السياسيّة، الموروثة من عقود انتفاء السياسة ومصادرتها في سوريا، والتي طبعت العملَ السياسيّ المعارض بطابعٍ من الهامشيّة، لكن الأمر يتعدّى ذلك إلى اتباع بعض الشخصيّات مسلكاً يشوّه الفعل السياسيّ، بوصفه ممارسةً تهدف إلى تغيير الواقع، وليس موقفاً أخلاقيّاً أو مبدئيّاً فقط، الأمر الذي يفسّر تعلق بعض المعارضين وتركيزهم على المواقف المبدئيّة فقط، مع غياب مقتضيات العمل السياسيّ المؤسّسيّ. يضاف إلى ذلك غياب برامج تغييرٍ واضح لدى القوى والأحزاب التقليديّة، وتركيزها على الإرث الشخصيّ لبعض رموزها المتقادمين. والأهمُّ هو لجوء بعض الشخصيّات المعارضة إلى سياسة تسجيل المواقف والنقاط، وسوق الاتهامات، وهدر الجهود، وتسميم الأجواء، وعدم القدرة على العمل الجمعيّ، والتركيز على شخصنة الخلافات، بما يزيد من الصراع والتنابذ والفرقة.
ولعل هذه النواقص والعيوب تفترض ضرورة السعي إلى تشكيل جسمٍ سياسيٍّ جديد، خارج هذه الشخصيّات وبعيداً عنها، يتمحور عمله على دعم الثورة وناسها، ويكون قادراً على جمع القوى المدنيّة والديمقراطيّة، ويضرب مثلاً في خدمة أهداف الثورة، ولا يتغاضى عن نقد أخطائها، بل يسعى إلى تخليصها قدر المستطاع من منزلقات التعثر، وإلى تقويم مساراتها وإبعادها عن مندرجات التطرّف والتعصّب، التي باتت مؤثرةً في بعض المواضع، ولاسيّما أن المجتمع السوريَّ بحاجةٍ إلى عودة السياسة المسلوبة منه، في هذه المرحلة الصعبة والحسّاسة من تاريخ سوريا، التي تشهد ازدياد خطر ارتداد المزيد من الناس إلى مختلف الولاءات ما قبل المدنيّة، من إثنيّةٍ وعشائريّةٍ وطائفيّةٍ ومذهبيّة، وتزايد خطر التطرّف والتعصّب.
وتأتي ضرورة تشكيل الجسم السياسيّ المنشود كي يعمل على إعادة ثورة الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعيّة إلى أصحابها المدنيّين، ولمنع الإسلاميّين والمتشدّدين من اختطافها والسطوة عليها. ولا شكَّ في أن الشبابَ السوريَّ الذي ثار على أعتى نظامٍ ديكتاتوريٍّ في الشرق الأوسط في العصر الحديث، يمكنه إيجاد الإطار المناسب لفعله السياسيّ، والانخراط في حزبٍ جديدٍ، ينهض على المواطنة والتعدّديّة والديمقراطيّة، ويسير في درب بناء دولة القانون والمؤسّسات.
وتقدم تجارب تونسَ ومصر وليبيا دروساً مستفادةً في هذا المجال، حيث إن ثورات هذه البلدان خُطفت من طرف الإسلاميّين، ومن طرف أصحاب البنى التقليديّة وما قبل المدنيّة، نظراً لضعف مأسسة وتنسيق القوى المدنيّة الديمقراطيّة، ولعدم وجود أطرٍ حزبيّةٍ، تمنهج العمل، وتوحّد الجهود.
والغريب في الأمر، هو أنّ الكثير من المثقفين السوريّين يجادلون اليوم في اتجاه الوقوف بوجه أيِّ عملٍ حزبيٍّ جديدٍ، ويسوقون حججاً واهيةً، تتمركز حول النقاط التالية:
1- الوقت لا يزال مبكراً.
2- شروط تشكيل الحزب غير مكتملة.
3- يحب الانتظار إلى ما بعد سقوط النظام.
4- بعضهم يرى ضرورة انتظار نضوج الفوارق “الطبقيّة” في المجتمع.
وهم يعودون في ذلك إلى مرجعيّةٍ، تجد صداها في شروط “لينين” لتشكيل الحزب الطليعيّ، ناسين أن الثورة السوريّة، هي ثورة القرن الحادي والعشرين، وليست من ثورات القرن المنصرم، وأن زمنَها مختلفٌ عن زمنهم، وناسها مختلفون عن الناس الذين يسكنون أذهانهم.
9- خاتمة:
راهن سوريّون كثر، ولاسيّما في الداخل، على أن تشكل هذه الكيانات السياسيّة مظلّةً سياسيّةً للثورة، بل وأن تقود الثورة وتدعمها، وتؤثر على مساراتها، وتساعد حاضنتها وناسها. لكن، وبعد انتظارٍ مديدٍ، تبيّن أنّ معظمها لم يقدّم المطلوب منه، لأنها تميّزت بتركيباتٍ هشّةٍ، وبأداءٍ ضعيفٍ، وانحيازٍ إلى التجاذبات والمماحكات، والمهاترات الشخصيّة، وضعف الخبرة السياسيّة، فيما عرفت الثورة السوريّة تحولاتٍ عديدةً وعميقةً في مسارها، نتيجة توغل النظام بالقتل والمجازر والجرائم، وتحوّلت من ثورة حرية إلى ثورة تحرّر.
ولم تتمكن مختلفُ تكوينات المعارضة السياسيّة السوريّة من مدِّ جسورٍ مع الثائرين السوريّين وحاضنتهم الاجتماعيّة، وحتى تلك الكيانات الهشّة، التي أطلقت على نفسها وصفَ “معارضة الداخل”، مثل “هئية التنسيق الوطنيّ لقوى التغيير الوطنيّ” وغيرها، بقيت تمثل “دكاكين صغيرة”، تضمُّ شخصيّاتٍ مترهلةً، عاطلةً، ومتقادمةً سياسياً، ومنبوذةً من طرف قوى الثورة، ولاسيّما الشباب.
ولعل الائتلاف الوطنيَّ لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، وقبله المجلس الوطنيّ السوريّ، كانت أمام كلٍّ منهما فرصةٌ كي يؤدّي دور المظلّة السياسيّة للثورة وناسها، لكن الأمور لم تكُ كذلك، إذ إن كلاً من المجلس والائتلاف لم يقم أيٌّ منهما بالدور المأمول منه، بمعنى أنه لم ينهض بمهمّة دعم الثورة، المطلوبة منه، حيث لم يمأسس أسلوب عمله، عبر لجانٍ ومكاتبَ متخصّصةٍ، ذات إستراتيجيّةٍ واضحةٍ ومحدّدة، بل احتوت تركيبته العامّة على جملةٍ من الشخصيّات “المنتهية الفاعليّة”، سياسيّاً وتنظيميّاً.
وبعد توسعة الائتلاف، قدمت إلى الهيئة العامّة كتلةٌ ديمقراطيّةٌ، أسهمت في انتخاب رئيسٍ جديدٍ، وهيئةٍ سياسيّةٍ، وتبيّن أن الائتلافَ بحاجةٍ إلى إصلاح نظامه الداخليّ، بل وتغييره، ولا يمتلك أية إستراتيجيّةٍ واضحةٍ، وبدون عملٍ مؤسّساتيٍّ، وبدون خططٍ، سواء لجهة دعم الثورة أم لجهة التنسيق مع الجيش الحرِّ وقيادة أركانه، وسوى ذلك كثير. وللأسف، لم تقدّم الكتلة الديمقراطيّة الشيءَ المطلوب منها، بل كرّرت ممارسات سائر أعضاء الائتلاف.
ولعل السببَ الرئيس في انفلات العسكرة ومجاميعها في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، أو المحرّرة، هو غياب مظلّةٍ سياسيّةٍ، قادرةٍ على القيادة، وعلى التأثير. ولا يعدم الأمر وجود أسبابٍ أخرى أيضاً، لكن طريقة تعامل تشكيلات المعارضة مع الثورة وحاضنتها الاجتماعيّة، مازالت تنهض على قطيعةٍ وانفصال.
بالمقابل، يستمرُّ مدنيّون سوريّون في فعل مقاومتهم، على الرغم من تراجع مظاهر الحراك المدنيّ السلميّ، بعد أن نشأت مجاميعُ مسلحةٌ، بعضها بعيدٌ كلّ البعد عن فعل المقاومة، بمختلف مظاهرها. ولعل العسكرة المنفلتة من رباطها وعقالها، أنتجت مظاهرَ و”هيئاتٍ شرعيّةً” و”إمارات”، لها أجنداتٌ وأهدافٌ مختلفةٌ عن أهداف الثورة السوريّة ومطالب ناسها، مع أن الناس في الثورة أحسّوا بأنهم أحياء، حين قرّروا الخروج من بيوتهم والنزول إلى الساحات والشوارع للاحتجاج على الاستبداد المقيم منذ أكثر من أربعة عقودٍ، لذا، فهم ليسوا بحاجةٍ إلى هيئاتٍ وإماراتٍ منحت نفسها شرعيّةً مفقودةً، ومشكوكاً بها، ومطعوناً فيها، كونها جاءت من أمراء العسكرة وتوابعها، وانبثقت عن مجموعاتٍ ليست مفجّرةً للثورة، ولا قادتها في أيِّ يومٍ من الأيام، بل استغلت فراغ القوة الحاصل بعد انحسار سلطة النظام الأسديّ، الفاقد الشرعيّة مثلها، كي تحتلَّ الفضاء العامَّ في المناطق المحرّرة، وتصادر الحريّات التي خرج من أجلها الثوّار السوريّون. وقد تحوّلت إلى سلطة استبدادٍ جديدةٍ، تحاول إشغال مكان سلطة الاستبداد القديمة، وتقوم بأفعالٍ لا تليق بثورة السوريّين، حتى باتت تعيث فساداً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، وذلك بدلاً من أن تنخرط في حركة المقاومة الشعبيّة وتكون عوناً لها.
للاطلاع على التقرير، مع مراجعه، الملف أدناه:
[gview file=”http://drsc-sy.org/wp-content/uploads/2014/07/عمر-كوش-تغييرات-المشهد.pdf”]

عمر كوش

كاتب وباحث من سوريا، مقيم في اسطنبول، ويهتم بقضايا الفكر والثقافة، ويكتب بشكل دوري في بعض الدوريات العربية. -الكتب المنشورة: 1- أقلمة المفاهيم: تغاير المفهوم في ارتحاله، المركز الثقافي العربي، بيروت-الدار البيضاء، 2002. 2- الإمبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق، دار الأهالي، دمشق، 2003. 3- الاتجاهات النقدية الحديثة، دار كنعان، دمشق، 2004. 4- الراديكالية الأميركية، دار الأهالي، دمشق، 2005. 5- الحرب على العراق ورهانات المستقبل، دار الأهالي، 2006. 6- أقلمات الفلسفة ومشادات الخطاب، طرابلس، 2009. إضافة إلى عدة مؤلفات وكتب أخرى بالاشتراك مع مؤلفين آخرين. -باحث مشارك في العديد من المؤتمرات والندوات العربية والدولية.