مقال

قوميات ومظلوميات في هذه المنطقة

اسهاماً في الحوار العام الجاري حول اللامركزية نعيد نشر مقالة لمدير المركز نشرت في جريدة الحياة (الجمعة، ٣٠ آب ٢٠١٣)

تعج منطقتنا بالمظلوميات، وواحدة من أسبابها عطل في تعاملنا مع حقيقة انقسامنا المزمن إلى قوميات وطوائف. فعلى رغم شيوع التغزل باجتماعنا كفسيفساء، إلا أن ذلك لم يمنع في يوم من الأيام قهرنا لبعضنا البعض. فكل منا يمتلك ما يبرر له الادعاء أنه من جماعة قُهرت، ولكن قل بيننا من يعترف بأن «جماعته» لم تقصر في قهر الآخرين حين أُتيح لها أن تفعل.

وأمام الجحيم الذي دشنه الاستبداد السوري في مواجهة الثورة، والأحقاد التي أنتجها عنفه الفاشي، وبعد الإقرار بحقيقة أن هناك من لم يتوقف عن تأييده لأسباب طائفية، وأن بعض هؤلاء شارك بنشاط واندفاع في القتل والتدمير، وأن هناك من تعاون معه تلبية لطموحات قومية، أصبح لزاماً علينا الوقوف أمام حقائقنا متخلصين من المساحيق التي لا تنفع لتجميل قبحنا. الأمر الذي يعني الإقرار بأننا لا زلنا نعيش ذهنية القسوة، وأن الثقافة السائدة عندنا لا تعبأ بالضعيف وتقدس القوي، وتهمل مشكلاتها، بل تجرم من يتجرأ على البوح بها. ما يبقينا مقيدين في دورات من المظلومية تنقلب فيها الأدوار، فيصير في كل منها الظالم مظلوماً قبل أن يتحولا بدورهما إلى مظلومَين من قِبل ظالم ثالث. وفي كل مرة نجد أنفسنا أمام «حقوق» لا يطاولها الشك، قومية كانت أم دينية، تبيح إهمال حقوق الآخرين، بل كتمها إن لزم الأمر.

يمكن للفلسطيني أن يثبت بسهولة أن مستوطنين أغراباً تجمعوا من كل بقاع الأرض لاغتصاب أرضه، والإسرائيلي اليهودي بدوره يمتلك تفويضاً إلهياً قديماً وتراثاً من التعهد أمام الرب أنه لن ينسى أرض أورشليم/ القدس التي اغتُصبت منه. وكذا يفعل العربي حين يثبت ملكية الأرض ويدعي بأن كل الممالك والشعوب القديمة في المنطقة قد ذابت في بوتقته، وأورثته حقوقها. هناك سريان أكسبوا الجغرافيا اسمهم، وأكراد يذكرون مملكة، يكاد لم يسمع بها أحد، كدليل لا يمكن رفضه عن مليكتهم الأرض إلا من قِبل الشوفينيين بحسب زعمهم. كل من ذكرنا، ولم نذكر، يغذون الأمل بأنهم ذات يوم سيتمكنون من استعادة أمجاد دولتهم القومية من دون أي اكتراث ببقية القوميات، وفي أحسن الأحوال يتحدثون عنها كأقليات يمكن أن تُعطى بعض الحقوق. ولا شيء يبعث على الأمل بأننا قد نخرج من هذه الدائرة. ما يُبقينا في دوامة إنتاج وإعادة إنتاج المظلوميات، بتبادل أدوار قائم على ضعف عصبيات وتفككها والغلبة لعصبيات فتية.

ما يمكن أن نحقق عليه الإجماع من دون كثير عناء هو أنه لا يوجد تغيير واسع ممكن للتنوع القائم، فالتطهير العرقي الذي ربما يداعب أحلام المتطرفين من كل اتجاه، والذي يمكن أن يؤدي إلى الخلاص من قومية من القوميات المتنازِعة، أمر غير وارد إلا إن قامت حرب إقليمية عظمى. وحدود الحرب في سورية أقل من ذلك بكثير، وستبقى من دون حدود التطهير العرقي الواسع حتى لو تحققت أماني حكام دمشق – التي تولدت عندما اقتنعوا أن العودة إلى الوراء أصبحت مستحيلة ومنوا النفس بأن زج الدول معهم في المستنقع يولد وقائع جديدة الكل فيها متضرر يبحث عن مخرج، ما يسمح لهم بطرح أنفسهم جزء من الحل – وتورطت تركيا في الصراع السوري. ولكن ذلك لم يحصل، ولن يحصل، فالإدارة الأميركية قررت أن تدفع كل حلفائها إلى مقاعد الفرجة معها إلى أن يُنهك خصومها ويقرروا أنهم جاهزون لتقديم التنازلات، وهو ما ستفضي الأمور إليه قصُر الزمن أو طال، وإن تدخلت فستضرب من بعيد محافِظة على المسافة بينها وبين «الورطة». وبما أننا سنبقى هنا معاً، وأن أي عنف لن تكون نهايته إلا صيغة للعيش معاً، يبقى السؤال عن الوجه الجديد للمنطقة التي نريد العيش فيها، وما إذا كنا سنعود لما ألفناه من تغيير للمواقع من دون تغيير في قواعد اللعبة، هو الأكثر أهمية والجواب عنه يستحق منا تحدي يقينياتنا ومحرماتنا.

على مستوى الوعي تنتج مشكلتنا من التناقض بين فهم نتبناه عن حق تقرير المصير بما هو السيطرة على الجغرافيا، وبين حقيقة أن هذه الجغرافيا تعود لجميع من عليها بوجهين: الأول، هي مهد حضارات قومية عدة ممثلوها على قيد الحياة ويعتقدون بأحقيتهم فيها. والثاني، أن انتهاء دورات المظلومية بين القوميات يتم حين تكف كل منها عن التعامل مع الجغرافيا كملكية حصرية. أي أن الطبقات المتراكبة للحقوق على جغرافيا واحدة، وما يتعلق بها من حقائق وأوهام وزيف، ستؤدي إلى استمرار الاعتماد على الغلبة، وهو ما ستكون محصلته الدورية مظلومية متبدلة وفق متوالية عنف وقهر. وحتى عندما نحاول الارتكاز على الحقوق لإيجاد حلول بدفع من نية تحقيق العدل، نجد أنفسنا نتيجة اعتقادنا الراسخ بأن حق تقرير المصير هو السيطرة على الجغرافيا مدفوعين إلى مقاربة حل قضية المظلوميات على أنه الحق بالانفصال، أو السيطرة على جغرافيا مختلف على ملكيتها ضمن فيديراليات هشة، ما يؤدي إلى إعادة توزيع المواقع من المظلومية. وفي هذه الحالة ينشغل الديموقراطي بتعداد السكان تاركاً للغالبية في كل موقع حق الهيمنة، ويروح إلى نقاش البقية كأقليات يجب مراعاتها. وبدلاً من ذلك نقترح التفكير في حق تقرير المصير كعدم سيطرة، التفكير في فيديرالية لا تقوم على اعتبار الأرض إنما على اعتبار الناس. وطالما أن أغلب الناس في منطقتنا يصرون على أن يكونوا «جماعات» في معاملاتهم، علينا أن نفكر كيف يمكن أن ننشئ بناء سياسياً جمهورياً يسمح لهم أن يعيشوا مشاركتهم السياسية على هذا الأساس. أي أن تكون هناك مؤسسات تُنتخب على أساس قومي، وترعى مصالح ناخبيها بغض النظر عن أماكن تواجدهم على مساحة الجغرافيا الوطنية المشتركة كلها، لا على ما تقتطعه لنفسها منها مطلقة عليه صفة «أرضي». يمكن التفكير في التمثيل القومي في المؤسسة ومن خلالها، وليس في ما تشغله من حيز مختلَف عليه.

تستدعي مثل هذه الحلول إجراء تغيير جوهري في ثقافتنا، والتحرر من قيود ثقيلة أصبح واضحاً في أيامنا المضطربة هذه أنها لا تفضي إلى أي فائدة لنا بل تطيل زمن الاستبداد. وهو ما سيسمح لنا بالتفكير في الحقوق بطريقة مختلفة، نتوقف نتيجة لها عن وضع حقنا مقابلَ «حقهم». ينفع مثل هذا الأمر في فلسطين الموحَدة كما في سورية والعراق وربما تركيا وإيران. ما يهمنا هنا هو البحث فيما إذا كانت مقاربة مختلفة، لواقع أثبت استعصاءه على الحلول الناجحة في مواقع لا تشبهه، يمكن أن تشكل آلية لحل قابل للتطوير ومراجعة نجاحاته وإخفاقاته.

الرابط الأصلي للمقالة

يوسف فخر الدين

كاتب وباحث فلسطيني سوري مقيم في بوردو، فرنسا. من مؤسسي مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، مدير المركز.