تحليل سياسات - تقدير موقف

مؤتمرات وقرار دولي

مدخل

على الرغم من أنَّ الهدف المعلن لحركة قوى “المعارضات” السوريّة المختلفة واجتماعاتها في الفترة الماضية كان تشكيل وفدٍ “معارض” موحّدٍ للتفاوض مع “النظام السوريّ”، إلا أن ما حصل هو أن مؤتمرين من المؤتمرات الثلاثة الأخيرة التي عُقدت في هذا التوقيت، كانا نوعاً من إعادة صياغةٍ لتحالفات المتقاتلين على الأراضي السوريّة، باستبعاد الأطراف التي لا تقبل مرجعيات القوى الإقليميّة والدوليّة و”وثيقة جنيف”، بينما كان الثالث، المنعقد في دمشق، استمراراً بائساً لمحاولة “النظام السوريّ” طرح بعض موالاته معارضةً لسحب الشرعيّة من الآخرين أو إضعافها.

يناقش هذا التحليل، إذا كان ما جرى هو إعادة هيكلة التحالفات المتصارعة بناءً على إعادة تموضع داعميها بتحالفاتٍ جديدةٍ تسعى إلى التصدّي للتحديات الناتجة عن مجريات الصراع فيما بينها، وكذلك بناءً على سلطات الأمر الواقع التي تحوزها، لخوض غمار جولةٍ أخرى من الصراع العسكريّ والسياسيّ. بصياغة أخرى، اختبار فرضية تقول إن ما يظهر اليوم هو مشهدٌ سياسيٌّ “جديد” إنما بعناصرَ “قديمةٍ” أُنتجت خلال سنوات الصراع الراهن وقد أعيد ترتيبها بحيث تكون قابلة للتجاوب مع حاجات الحرب والتسوية في آن.

الإستراتيجية الأمريكيّة([1])

اللافت أن الإدارة الأمريكيّة مازالت تدير الصراع السوريّ بناءً على الأسس نفسها التي ظهرت منذ انتقال الصراع في سوريا إلى طوره المسلّح، حتى إنها حرصت من خلال القرار الدوليّ الذي صدر أخيراً على تثبيت رؤيتها للأزمة، وثم ترك المتصارعين لخوض جولاتٍ إضافيّةٍ من الإنهاك المتبادل، قبل أن يكونوا جاهزين للتنازل أكثر والقبول بالتسوية التي ترتضيها واشنطن. في الوقت نفسه، تترك الفرصة لروسيا وإيران للقتال ما شاؤوا القتال، طالما أنهم ينزفون من خاصرة تحالفهم السوريّة الرخوة، ويجدون أنفسهم متنازعين أحياناً ضمن إطار تحالفهم السوريّ، ولاسيّما في ضوء التنسيق الروسيّ الإسرائيليّ([2]). على مستوىً آخر، تحرص الإدارة الأمريكيّة على إبقاء الصراع ضمن حدود الأراضي السوريّة، ودعم جهود “الحرب على الإرهاب”. وهذا يدفع للعودة من جديد إلى اعتبار ما تريده الولايات المتّحدة عنصراً محوريّاً في الإجابة عن سؤال هل اقترب الصراع السوريُّ من الحلِّ؟ وهو مما يحاول تقدير الموقف الذي بين أيديكم مقاربته.

ومعلوم أن حملات “الحرب على الإرهاب” تتصاعد، سواء من طيران التحالف الذي تقوده الولايات المتّحدة أو الطيران الروسيّ المساند للنظام، وأضيف إليها حديثاً الإعلان عن “تحالفٍ إسلاميٍّ من 34 دولة لمحاربة الإرهاب” تقوده السعودية”([3]). بينما تسعى روسيا، في سياق محاولتها ملء الفراغ الذي خلفه الأمريكيون، إلى توسيع دائرة الصراع باتجاه تركيا عبر دعمها لحزب العمال الكردستانيّ([4])، في الوقت الذي تحاول بدورها ايجاد معادلات في سوريا تراعي مصالح أطراف مختلفة منها السعودية.

الإطار الدوليّ

منذ أن تمّت الاستعاضة عن المجلس الوطنيّ المعارض بالائتلاف الوطنيّ كممثلٍ للمعارضة السوريّة، تبيّن أنه قد أسقط من حساب الإدارة الأمريكيّة أن يكون أيّ منهما ممثلاً وحيداً للشعب السوريّ (هذا إن كان هناك لديها مثل هذا القرار مسبقاً)، وفي السياق ذاته دفعت الإدارة الأمريكيّة لتشكيل حكومةٍ شكلية للمعارضة. ليتبيّن أن الأمريكيين إنما يصنعون بنىً تهدد باستبدال شرعية “النظام السوري” لتكون عوامل ابتزازٍ له ولحلفائه لا أكثر، في حين هم يحرصون إلى الآن على بقائه ومنع انهياره.

واذ كان السعي لفهم مبررات هذا التوجّه الأمريكيّ شاغلاً دائماً للاعبين، والمحللين السياسيين، فربّما التركيز على النتائج بوصفها جزءاً من حزمة الأهداف الأمريكيّة يساعد في ذلك، وفي تفسير مسار السياسة الأمريكيّة حيال الصراع في سوريا. ومن هذه النتائج على الصعيد الإقليميّ، والدوليّ، عودة دول المنطقة، والدول صاحبة المصالح فيها، إلى منازعاتهم بعد أن كانوا تحت ضغط المغامرات العسكريّة لإدارة الرئيس السابق جورج بوش، قد نحّوا خلافاتهم جانباً، وصنعوا تحالفاتٍ صارت عبئاً على المصالح الأمريكيّة، وتهدد مكانتها بما هي الدولة العظمى الوحيدة. فبين الأوضاع التي كانت إبان الورطة الأمريكيّة في العراق، وأفغانستان، وتلك التي تسود الآن بونٌ شاسعٌ. بين أن تتخبط الولايات المتّحدة في المستنقعين العراقيّ، والأفغانيّ، في وقت تنشأ تحالفات إقليميّة هنا وهناك على أرضية العداء لها، ويعيش حلفاؤها التقليديون نعيم العلاقات الودّيّة مع أعدائها (العلاقات التركيّة الإيرانيّة، والروسيّة، في تلك الفترة خير مثال)، وبين أن تتصارع تلك الدول، بما فيها التي في تحالف واحد، بون شاسع.

ثم إن المزعج للولايات المتّحدة في “النظام السوري” صار أثراً بعد عين، وهو يفسر أن تميل الإدارة الأمريكية للاستثمار بما تبقى منه طالما أن ذلك سيمنع من فرص تشكّل طرفٍ منتصرٍ يبني سوريا بما يتناسب معه ومع داعمه الإقليميّ. الأمر الذي تجسّد عبر مسيرة حرص الإدارة الأمريكية على تشجيع الجميع، ومنع انتصار أيٍّ منهم في آن.

ونتيجة إعادة التموضع الأمريكيّ، كانت مصالح الدول، كما سبقت الإشارة، تتعارض بشدة؛ فالعلاقات المصلحيّة الإيرانيّة التركيّة التي كانت تنتعش على هامش الوجود الأمريكيّ المباشر، وتتغذّى من العقوبات الأمريكيّة/ الغربيّة على إيران، تحوّلت اليوم إلى حربٍ بالوكالة في سوريا، وتهديدات متبادلة علنيّة، ولا يخفى الخطر الذي كانت تشعر به دول الخليج، ولاسيّما السعودية، من انتصار أيٍّ منهما في سوريا، وأثر ذلك على دورها الإقليميّ. لتعيش سوريا، بأثر هذا الصراع، جمودَ الحلول حتى ربيع (2015) حين هدّد تقدم “جيش الفتح” في إدلب وسهل الغاب بقلب الموازين، نظراً لاحتمال متابعته الزحف باتجاه الساحل، معقل سلطة الأسد، لتتدخّل روسيا عسكريّاً بشكلٍ مباشرٍ، وتغطي ضعف سلاح الطيران لجيش سلطة الأسد. التدخّل الذي أدّى لفتح داعمي “المعارضة” قنوات الدعم العسكري نسبيّاً، وإعطاء الضوء الأخضر لأطرافٍ مسلّحةٍ مرتبطة، على نحو ما، بالأمريكيين لاستخدام صواريخ “التاو” المضادّة للدروع، وصولاً إلى إسقاط سلاح الجو التركيّ الطائرةَ الروسيّة.

وبوصول الاحتكاك بين الداعمين إلى مرحلةٍ حرجةٍ تهدد بالانتقال من الحرب بالوكالة إلى التصادم العسكريّ المباشر، وبعد أن أوضحت تركيا خطوطها الحمراء وتراجعت بشكلٍ ملحوظٍ لتوضيب بيتها الداخليّ، وفضلت الالتفات للعرض الأوربيّ بإعادة التفاوض على دخولها النادي الأوربيّ، والتركيز على علاقاتها مع الدول صاحبة المشكلات مع روسيا، ثم الانضواء في تحالفٍ تقوده السعودية، دخلت الولايات المتّحدة على الخط لتمنح روسيا فرصة استعادة ماء الوجه كدولةٍ عظمى ذات مصالح وطموحات، وللاستفادة من نقطة الذروة التي بلغتها الأوضاع. وجاء تجاوب روسيا مع المبادرة الأمريكيّة، في الوقت الذي تعمل على تكريس وجودها العسكريّ في سوريا، وتدعم مقاتلي حزب العمال الكردستاني في تركيا وفي سوريا، ما أفضى الى إصدار القرار (2254) عن مجلس الأمن، بهدف نقل عناصر من اتفاق جنيف إلى نطاق القرار الدوليّ.

في النتيجة، يوجد اليوم هيمنة روسية على قرار النظام السوري بغطاءٍ دوليّ، واستعدادات إقليميّة لجولةٍ أخرى من الحرب يتخللها جولاتٌ استطلاعيّة لإمكانيّة إجراء تسوية، تعمل الأطراف الدوليّة على تثبيت مصالحها فيها على أنها قرارٌ دوليٌّ.

المشهد السوريّ

تجاوباً مع هذا المشهد الدوليّ الإقليميّ المستجدّ، بدأت “المعارضات” السوريّة سعيها للتكيّف. ذلك أنّه مع تقدّم المملكة السعوديّة الصفوف عن جبهة أعداء “النظام السوريّ”، بعد إجرائها توافقاتٍ مع تركيا، انتقل مركز “المعارضة” إلى الرياض، وجاء انتخاب مقربين من الإمارات العربيّة المتّحدة (رياض حجاب، رياض نعسان آغا) لقيادة هيئة المفاوضات التي انتخبها مؤتمر الرياض، كنوعٍ من تطميناتٍ سعوديّة للإمارات. ومع تقدم روسيا صفوف حماة “النظام”، والتراجعٍ النسبيّ لتأثير إيران، واسقاط تركيا طائرة روسية، برزت أولوية الصراع الروسي مع تركيا؛ الأمر الذي أضعف أهمية إيجاد شركاء عرب لحزب العمال الكردستاني، وجناحه السوريّ (حزب الاتحاد الديمقراطيّ)، من وجهة نظر الروس، فتمَّ الاكتفاء بشراكة عدد محدود منهم “هيثم مناع” لإنشاء مظلّة سياسية باسم “مجلس سوريا الديمقراطيّة”  للمجموعات العسكريّة التابعة لحزب العمال الكردستاني للاستفادة منها في هذا الصراع.

مع ملاحظة أن السياسة الأمريكيّة، ومراهناتها، أدّت لبقاء تسمية “النظام السوري” بهذا الاسم على الرغم من تراجع سلطته على الأرض لتصبح محصورةً على نحو (20%) من سوريا، وعلى الرغم من تراجع أدوار مؤسسات رهينته، الدولة، وانتهاء أخرى (هل يمكن مثلاً الحديث عن وزارة نفط، ومثلها الكثير)، وتفكك الكثير من مكوناته أو انحصارها بتسمياتٍ دون مبنى. وكذلك استمرار وصف “المعارضة” بهذا الاسم، على الرغم من أن المؤثرين من بينها صاروا سلطات أمر واقع على مناطق متفرقة من سوريا.

المؤتمرات

مؤتمر الرياض، الذي عُقد في العاصمة السعوديّة (9 ديسمبر/كانون الأول)، وضمَّ طيفاً واسعاً من “المعارضة” السياسيّة السوريّة (104 شخصية سورية ممثلين عن قوى وأحزاب سورية  منها: الائتلاف الوطنيّ، وهيئة التنسيق، والمجلس الوطنيّ الكرديّ، وتيار بناء الدولة، وعدد من المستقلين)، والمسلّحة (نحو 18 فصيلا عسكريا بينها “أحرار الشام”، و”جيش الإسلام”، و”الجبهة الجنوبية”). كان البارز فيه انتقال مركز تحالف “المعارضة” الرسميّة إلى الرياض، في المملكة العربية السعودية، لتكون الأخيرة ضامنة الاتفاقات بينهم بالتكافل مع تركيا، ويبدو أن استبعاد حزب الاتّحاد الديمقراطيّ (الكرديّ)، المتحوّل إلى سلطة أمرٍ واقعٍ في بعض مناطق الشمال السوريّ، كان أحد الأثمان التي حصلت عليها تركيا مقابل هذا الانتقال.

ويُظهر هذا الانتقال المكانة التي أصبحت تحوزها السعودية في الصراع مع النفوذ الإيرانيّ، وهو ما يُفسر بعدم وجود اعتراض أمريكي أو أوربي، أو روسي، على دور لها، فهو مهما تعاظم لا يمكن ان يحتوي سوريا، أي لكون دورها سيبقى بنهاية الأمر توافقي مع الآخرين؛ ولاعتماد القيادة السعودية الجديدة سياسةٍ وسطيّةٍ ما بين الدول الداعمة للإخوان (ابرزها: قطر، وتركيا) وتلك التي تعتبر الحرب عليهم مسألةً مصيريّة (ابرزها: الإمارات العربيّة المتحدة، ومصر). ما يؤهلها لترعى تسوياتٍ ما بين الدول المهجوسة بالنفوذ الإيرانيّ، بما يقتضيه ذلك من “ترويض” بعض فروع الإخوان المسلمين، والقوى السلفيّة المدعومة من السعودية.

وكما التحالف الراعي للمؤتمر يُبرز تلاقياتٍ كانت حتى وقتٍ قريبٍ صعبة التصوّر، حيث وكلاء أطرافه المسلحون كانوا يتصارعون على مناطق النفوذ، كذلك يُبرز لقاءَ أطرافٍ “معارضةٍ” سورية طبعت صراعاتُها السياسيّة والإعلاميّة “المعارضةَ” السوريّةَ بطابعها طوال السنوات الخمس الماضية. وهو ما يؤشر إلى تخفيض الأطراف المهيمنة في “المعارضة” سقف طموحاتها، ولاسيّما الإخوان المسلمون وحلفاؤهم من القوى والمستقلين، وتراجع اعتقادهم – ولو إلى حين- بإمكانيّة الفوز بالسلطة وحدهم، وإلى توافق جميع المشاركين على ” مبدأ اللامركزية الإدارية”([5]). في هذا الصدد يمكن عدُّ تبوّء مقربين من الإمارات العربيّة المتحدة (رياض حجاب، ورياض نعسان آغا)، وقياديّ رئيس من هيئة التنسيق (صفوان عكّاش)، المواقع الرئيسة في هيئة المفاوضات المنبثقة عن مؤتمر الرياض ضمانات إضافية قدمت للدول المشاركة في تحالف الداعمين، تدلّ على أن الإخوان المسلمين جاهزون للشراكة وتخلّصوا من فكرة الاستئثار.

مؤتمر “سوريا الديمقراطيّة”، الذي عُقد في مدينة المالكية في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا(9 ديسمبر/كانون الأول)، ونظمه حزب الاتحاد الديمقراطيّ (الواجهة السوريّة لحزب العمال الكردستانيّ التركيّ)، شارك فيه ممثلون عن الحزب المذكور و”تيار قمح” برئاسة هيثم مناع، إلى جانب عددٍ من الأحزاب والتجمّعات السياسيّة، وممثلين عن “قوات سوريا الديمقراطيّة”، التحالف العسكريّ الذي يضمُّ الوحدات المقاتلة لحزب الاتحاد الديمقراطيّ وسلطة الحكم التابعة له “الإدارة الذاتيّة”، وحلفاء محدودين. ومعلومٌ أن هذه القوات مدعومةٌ من روسيا، كما تلقى دعماً من الولايات المتحدة التي تنظر إلى المقاتلين الأكراد كشريكٍ أساسيّ في قتال تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش).

ويتعدّى الهدف من تزامنه مع مؤتمر الرياض التشويش عليه، أو سحب شرعية المجتمعين، إلى تأكيد منظميه على سلطة الأمر الواقع التي يحوزونها، وسعيهم إلى الخروج بمظلّةٍ سياسيّةٍ لها تؤهلهم لحضور التسويات المقبلة كطرفٍ يسعى لتكريس الحكم الذاتيّ للمناطق الواقعة تحت سلطته ولمناطقَ أخرى يطمع بضمّها. وفعلاً انتهى المؤتمر إلى الإعلان عن تشكيل “مجلس سوريا الديمقراطيّة”، وانتخاب إلهام أحمد وهيثم مناع لرئاسته، ليتخّلى الأخير بذلك عن تأدية دور “المهاتما غاندي” في سوريا، ذلك أنّ المجلس المذكور هو غطاءٌ سياسيٌّ لجسمٍ عسكريٍّ، مارس كغيره من الميليشيات المنخرطة في الحرب السوريّة انتهاكاتٍ بحقِّ المدنيين في مناطق سيطرته.

ويتلقى القائمون على المؤتمر (حزب العمال الكردستانيّ عبر جناحه السوريّ)، والغطاء السياسيّ الذي نتج عنه (مجلس سوريا الديمقراطيّة)، دعماً روسيّاً صريحاً، وآخر أوربيّاً وأمريكياً وإن كانا مشروطين. فهذا التشكيل الجديد يناسب روسيا لجهة عدائه لتركيا وتحالفه مع “النظام السوريّ”، وهو أيضاً يناسب بتطلعاته المعلنة المقاربات الغربية لاحتمال الحلِّ الفدرالي في سوريا([6])، إذ تحدّث بيانه الختامي عن “نظامٍ سياسيٍّ تعدديٍّ لامركزي” دون أن يحدد شكل هذه اللامركزيّة، إضافة إلى موقف حزب الاتحاد الديمقراطيّ نفسه بشأن “سوريا اتحادية”([7]). وهو الحلُّ الذي تسعى الولايات المتّحدة للتوصّل إليه، وتترك الصراع على الأرض ليقنع الأطراف بحدوده الجغرافية والسيادية. ومما قد يساعد على بلورة حلٍّ كهذا انسداد آفاق الحلول السياسيّة المطروحة وتنامي الميول الانفصاليّة، وحرص أصحابها على الإبقاء على الوضع الراهن من تقاسم مناطق السيطرة. هذه السلطات الفعلية لها حضورٌ وازنٌ على الأرض، وسوريا اليوم تتوزّع فعلياً على مناطق نفوذٍ واضحة المعالم تسيطر عليها قوى أمر واقع متعدّدة، لكلٍّ منها رعاتها الإقليميون والدوليون.

القرار الدولي

كان قرار مجلس الأمن رقم (2254) تطوّراً سياسياً من حيث إن الولايات المتحدة استطاعت تكريس رؤيتها لصراع مستمرٍّ في قرارٍ دوليٍّ. حيث أنه لا يذهب باتجاه “تسوية نهائية” في الوقت الراهن، بل يعتمد استراتيجية “الخطوات الصغيرة” لتكريس وقائع جديدة، ما يعني تركه باب الصراع المسلح مفتوحاً.

من جهتها، لا تخفي إدارة أوباما رغبتها في تشجيع الدول المتضررة من روسيا على منازعتها في غير مكان من العالم وتعود لتطرح مسألة توسيع حلف الناتو لهذا الهدف، وكذلك تعمل بشأن الخلافات الإقليميّة العالقة بين دول المنطقة، بما يساهم في تخفيف حدّة الصراع في سوريا إلى الحدود المقبولة أمريكيّاً. والملفات الدوليّة والإقليميّة العالقة عديدة، بدءاً من أوكرانيا، والقرم، وليس انتهاءً بالملف النووي الإيرانيّ، واليمن. في هذا الإطار يمكن قراءة تزامن انطلاق “محادثات السلام” في سويسرا بشأن اليمن والإعلان عن وقف إطلاق النار هناك([8])، مع لقاء “لافروف” و”كيري” في موسكو قبل أيام من إصدار قرار مجلس الأمن حول سوريا؛ فبالإضافة إلى الملف السوريّ، المحور الرئيس للمحادثات، تطرّق “كيري” إلى الدور الروسيّ في المفاوضات النوويّة الإيرانيّة، وكذلك إلى الموضوع الأوكرانيّ([9]). في السياق نفسه لا عجب أن تَراجُع تركيا النسبيّ في سوريا أعقبه تصعيدٌ من قبلها ضدّ الروس عبر خاصرتهم الأوكرانيّة، فقد أكّد رئيس الوزراء التركيّ، أحمد داوود أوغلو، بأنه سيقوم بزيارةٍ رسميّةٍ إلى أوكرانيا “التي يحتلُّ الروس جزءاً من أراضيها”، مشدداً على أن “أنقرة ستقوم بتقديم الدعم السياسيّ، والاقتصاديّ، لأوكرانيا للحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية”([10]).

في ضوء ذلك كلّه، تعمل الولايات المتحدة على “إدارة الأزمات” مستفيدةً من عدم تورطها عسكرياً، فتقوم بتبريد صاعق الانفجار كلما بدا أن الضغط عليه وصل إلى مرحلةٍ حرجة، وتقدم عروضاً تضمن مصالحها، وتضع مصالح خصومها في تعارضٍ مع بعضها، لتعودَ إلى جولةٍ أخرى من توزيع أوراق اللعب.

خاتمة

هكذا، يغدو من المشكوك به إمكانيّة التوصّل في المدى المنظور إلى حلٍّ في سوريا، التي تحوّلت ساحة صراع خلفيّة للأطراف الإقليميّة والدوليّة. وطالما أنه لا صيغة توافقات دوليّة، وإقليميّة، بعدُ، على العديد من الملفّات المفتوحة، فستجد الأطراف في ساحة المعركة المتاحة فرصة لـ”الكباش”، وهو ما يغذي اتّساع الهوّة بين السوريين إلى درجة لم يعد من السهل ردمها.

على هذه الحقيقة يراهن المتطرفون على جانبي الصراع السوريّ، فكلٌّ منهما يستثمر في طول أمد الصراع، فبينما تراهن جبهة النصرة على كسب جمهور منافسيها إلى صفها، هؤلاء الذين يدفعهم الإحباط إلى مزيد من التطرّف، لازالت سلطة الأسد تراهن على اعتمادها في “الحرب على الارهاب” الذي ساهمت في اطلاقه،. ذلك أن القوى الإسلاميّة كما “النظام الأسديّ” ليس لديها قدرةٌ على التشارك، وهنا يكمن عجزها عن الحلِّ السياسيِّ بما هو خلق أرضيّةٍ مشتركةٍ وتقديم تنازلاتٍ متبادلة والاستعداد للتوافق بشأنها، فهي إما أن تفرض سلطتها بالكامل أو أن تستمرَّ في القتال. علاوةً على ذلك، فهذه الأطراف لا تمتلك القدرة على تقديم ما يطمح إليه الشعب السوريّ ولا حتّى تلبية احتياجاته الراهنة، وبالتالي، لم تعد تستمدُّ قيمتها سوى من استمرار الصراع على اعتبارها تقاتل “الطرف الآخر”، وحين توافق على وقف القتال ستجد ذاتها (بما فيها “النظام السوريّ”) وقد فقدت مبرّر وجودها واستمرارها.

لقد صار للحرب في سورية آلية ديمومة ذاتيّة ومجموعات مصالح متكاملة تغذّيها([11]). وفي غياب قوى معارضة ديمقراطيّة مقاتلة، حيث ركز الطرفان على تصفية إمكانيتها، يصبح من المعقول جدّاً توقع أن يكون التطرّف هو الرابح الوحيد في ظلِّ استمرار الكارثة السوريّة.

[1] – يمكن العودة الى “سوريا وايران في ظروف اعادة التموضع الامريكي”، يوسف فخر الدين، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية.

[2]– المدن، مقتل ضباط إيرانيين مع القنطار يعزز فرضية الاختراق الروسي

[3]–  الشرق الوسط: تحالف إسلامي من 34 دولة لمحاربة الإرهاب قيادته في الرياض

[4]–  العربي الجديد، حرب “الكردستاني” وتركيا تكتيكات جديدة لحرب غالب ومغلوب

[5]البيان الختامي لمؤتمر الرياض، السفير اللبنانية.

[6] –  للاطلاع على المقاربة الامريكية، والفرنسية، الرسميين للموضوع يمكن مراجعة: فرانس24، مدير الاستخبارات الفرنسية: “العراق وسوريا لن تستعيدا حدودهما السابقة أبدا”.

[7]  – سيريا نيوز: مؤتمر المالكية يشكل مجلساً سياسياً لقوات سوريا الديمقراطية

[8]  – – العربية، بدء محادثات السلام حول اليمن في سويسرا

[9] – – روسيا اليوم، لافروف: اتفقنا على عقد مؤتمر جديد حول سوريا في نيويورك

[10] – – العربي الجديد، الأزمة الروسية التركية داود أوغلو يلعب بالورقة الأوكرانية

[11] – يمكن العودة إلى “في تعقيدات الوضع السوري“، يوسف فخر الدين، مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية.

[gview file=”http://drsc-sy.org/wp-content/uploads/2016/01/yousif-tarek.pdf”]