مقال,K

خطوة إلى الأمام: نحو بناء تنظيم سياسي سوري ديمقراطي جديد

عرفت الثورة السورية منذ بدايتها شكلًا مبتكرًا من التنظيم السياسي والاجتماعي، تمثّل في ظاهرة «التنسيقيات». لم يكن هذا الشكل التنظيمي وليد الصدفة، بل كان حصيلة تراكم خبرات شبابية سبقت اندلاع الثورة، حين اختبر هؤلاء الناشطون أنماطًا من العمل الجماعي والتشبيكي تتجاوز البُنى الحزبية التقليدية الجامدة وصنمية القيادات فيها. فابتكروا أدواتهم الخاصة، متحررين من مركزية القرار ومن التصور الكلاسيكي للتنظيم الحديدي.
وخلال العام الاول للثورة اثبت هذا النمط اللا مركزي والمرن قدرته على الصمود أمام القمع الأمني، ونجح في إحداث تحوّل نوعي: فقد أتاح لكل تنسيقية أن تعبّر عن ذاتها وتُجيب على تحدياتها الخاصة المرتبطة بسياقها الاجتماعي وخلفيات أعضائها؛ ما وهب الثورة طبيعتها الجامعة، حين مكنها من تجاوزت الانقسامات الأيديولوجية والبنى القديمة.
ولقد مكّن هذا النموذج شبكات شبابية متفرقة من خوض مواجهة فعلية مع نظامٍ طالما بدا مستعصيًا على المواجهة، نظامٍ كرّس سردية الخوف والتسليم لعقود. بهذه الطريقة، أعاد الفعل السياسي إلى عامة الناس، وأعاد افتتاح المجال العام الذي صادره الاستبداد طويلًا.

كما جاء هذا النموذج مناسبًا لمواجهة “خرابين” في وقت واحد: خراب النظام الذي ثار الناس عليه، وخراب المعارضة التقليدية التي أضعفها طول القمع وأفقدها القدرة على التجدد.

غير أنّ هذا الإنجاز سرعان ما واجه تحدياتٍ فاقت إمكانياته، واحتاج إلى تطويرٍ لمواجهتها. فقد ردّ النظام على مرونة التنسيقيات ولامركزيتها بتوسيع الحل الأمني والعسكري، وإطلاق أدوات التخريب الداخلي، بدءًا من السلفية الجهادية، وصولًا إلى استدراج التدخلات الخارجية. ثم جاءت تدخلات إقليمية، أبرزها القطرية، لتفرض وكلاءها على الثورة، فموّلت بشكل سخي جماعات مثل الإخوان المسلمين وأشباههم ممن لم يكن لهم حضور يُذكر في الفعل الثوري الأصلي. أضيف إليهم لاحقًا عملاء أجهزة مخابراتية، تسلّلوا إلى المشهد أو فُرضوا عليه.

في ظل ذلك، لم تعد التنسيقيات، رغم ما مثّلته من نقلة في العمل السياسي، قادرة على مواجهة أدوات الحرب الأمنية والعسكرية، أو التصدي للعمل الاستخباراتي المركب، أو مقاومة المعارضة المدعومة خارجيًا، أو مواجهة العسكرة وما جرّته من سيطرة قسرية للسلفية الجهادية، وذلك من دون تطوير نوعي لبنيتها وأدواتها.

حين ننظر إلى تلك المرحلة اليوم، يتضح أن إنشاء «حزب ثوري» بالمعنى التقليدي كان مستحيلًا. لم يكن ذلك فقط بسبب أن معظم الناشطين المؤثرين في التنسيقيات لم يكونوا ينسجمون مع فكرة الحزب المركزي الهرمي، بل لأن شروط الانتقال من اللامركزية إلى المركزية لم تكن متوفرة أصلًا، بل كانت العوامل الملموسة جميعها تعاكس هذا الانتقال.

ورغم ذلك، فإن الحاجة إلى تنظيم القوى الديمقراطية لم تتراجع. بل عادت اليوم بإلحاح أكبر، في وقت لا تزال فيه القوى القديمة ضعيفة التأثير، في حين يرفض الجيل الجديد أن يخضع لنمط القيادة والقرار المركزي القديم، بكل ما يحمله من امتثالية وأحادية أيديولوجية.

نحو حزب ديمقراطي من طراز جديد

من هنا، تصبح مراجعة تجربة التنسيقيات وتطويرها خطوة أساسية لبناء شكل جديد من التنظيم الحزبي غير التقليدي.

الدعوة إلى تأسيس «أحزاب ديمقراطية من طراز جديد» لا تزال ضرورة ملحّة، لكنها لا يمكن أن تنجح من دون مراجعة جذرية لمفهوم الحزب نفسه. فالحزب الذي نحتاجه اليوم كي يكون ملائمًا للواقع السوري وتجربة الثورة لا يمكن أن يُبنى كنموذج هرمي مركزي تقليدي، بل ينبغي أن يُبنى كنموذج «شبكي» مرن متعدد المراكز.

في هذا التصور، الحزب ليس جهازًا مغلقًا موحّدًا، بل شبكة واسعة من الفاعلين والمراكز، تضم: سياسيين ومنظمات، ومراكز أبحاث وإعلاميين، ومجموعات محلية وقطاعية، ومتخصّصين في القانون، والتعليم، والحقوق، والثقافة، والعمل المجتمعي… سواء كمجموعات أو كأفراد.
وهذه المكوّنات لا تخضع لتراتبية صارمة، بل تتكامل ضمن مشروع مشترك، من خلال التشبيك والتنسيق وتبادل التأثير.
واجد ان الحزب هنا هو هذه الشبكة كلها، وليس قيادة واحدة أو خطابًا موحدًا. إنه يقوم على تعدد المراكز، وتعدد التخصصات، وتعدد أنماط العمل، وعلى تفاعل مستمر بين المبادرات.
ولكي ينجح هذا النموذج، ينبغي ألا ينطلق من «أجوبة جاهزة» بل من تنظيم عملية طرح الأسئلة. على المؤسسين أن يجمعوا الأسئلة الكبرى حول طبيعة العمل السياسي، العدالة، التمثيل، التنظيم، الحريات، واللامركزية التنظيمية، ويقدموها للنقاش في أوساط الديمقراطيبن المتنوعة.
في هذا التصور، لا يعني التنظيم احتكار الرأي، بل يعني إدارة الفعل المشترك وتسهيل التواصل بين الفاعلين.
ما نقترحه هو الانتقال من استنساخ النموذج الأوروبي المركزي إلى بناء سياسي أكثر انسجامًا مع الواقع السوري، أقرب إلى النموذج الشبكي الأمريكي، لكن من دون تقليد أعمى، بل بإعادة تركيبه بما يلائم احتياجاتنا الخاصة. المطلوب ليس فقط حزبًا جديدًا، بل طريقة جديدة تمامًا في التفكير في العمل السياسي والتنظيمي، تقوم على بناء السياسة ذاتها، لا على تمثيلها فقط.

في ضرورة الاستقلالية
مع ذلك، كل هذه الأفكار الطموحة لن تكون قابلة للتحقيق دون ضمان الاستقلالية. فلطالما كانت التبعية المالية – للصحف، للمراكز، للكتاب، وللتنظيمات – واحدة من أخطر معوقات الفعل السياسي المستقل.
في سوريا، كما في معظم بلدان الجنوب، حيث تتداعى البُنى وتجف الموارد، يُكافأ التابع ويُقصى المستقل، ويفتح المجال أمام النفوذ الخارجي لا أمام الكفاءة المحلية.
فالاستقلال السياسي يبدأ من الاستقلال المالي. والحرية لا تُمارَس تحت الرعاية، بل تُبنى بأدواتها الخاصة.
لذا، فإن أي بنية سياسية جديدة تريد النجاح ينبغي أن تُؤسَّس على قاعدة تمويلية متعددة المصادر، شفافة، ومتدرجة. يجب ألا تقوم بنيتها المؤثرة على تبعية مانحين كبار، بل على مساهمات جماعية صغيرة ومشاريع اقتصادية–سياسية جزئية تضمن حدًا أدنى من الحرية.

حلول ممكنة:

  1. تنويع مصادر الدعم
    الاعتماد على مساهمات فردية صغيرة من جمهور واسع (داخل سوريا والشتات) لتقليل خطر التبعية لأي جهة.
  2. التمويل الجماعي المنظم
    دعم مشاريع محددة – كصحيفة أو مركز أبحاث أو برامج تدريب – بتمويل جماعي شفاف مع ضمانات استقلالية.
  3. فصل الملكية عن الإدارة
    إنشاء صناديق داعمة أو جمعيات مستقلة تتولى الموارد دون التدخل في القرار السياسي أو التحريري، على غرار «نظام الأمناء».
  4. اقتصاد المقاومة السياسية
    تطوير أدوات إنتاجية–سياسية (نشرات، تحليلات، دورات، إنتاج ثقافي) يمكن تمويلها لدعم العمل السياسي دون خضوع.
  5. ميثاق داخلي للاستقلالية
    قواعد ملزمة لقبول التمويل:
  • شفافية كاملة،
  • رفض التمويل المشروط سياسيًا،
  • عدم الاعتماد على مصدر وحيد،
  • نشر دوري للتقارير المالية.
  1. نموذج النواة المستقلة
    الحفاظ على نواة تنظيمية صغيرة مستقلة تمامًا، تتفاعل مع محيط أوسع يمكن تمويله مرحليًا من دون المساس بجوهر المشروع؛ يتم انتخابها من قبل الاعضاء (افراد ومجموعات) عبر آلية تحقق متطلبات الديمقراطية والتمثيل والمشاركة.