أثر اقتصاد الحرب في التنظيمات الاجتماعية (3)
عرَّفنا اقتصاد الحرب في الحلقة السابقة من هذه السلسلة، وميّزنا ما يعنيه اقتصاد الحرب في الحالة السورية، وبيَّنا أثره، بل بعض آثاره الظاهرة، في العلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة والقيم الحاكمة. ولكن آثار اقتصاد الحرب تتعدّى الحيوات الخاصة أو الشخصيّة للأفراد إلى تنظيمات المجتمع الأهليِّ وبوادر المجتمع المدنيِّ والمؤسسات الرسميّة، أي إلى الهيكل الأساسيِّ للمجتمع، حيث يمارس الأفراد حياتهم النوعيّة. لذلك سنتناول في هذه الحلقة أثر اقتصاد الحرب في الأسرة النووية والعائلة الممتدة والعشيرة، وسيرورة تحوّل العَصَبَات أو بنى القرابة النسلية إلى عصبيَّات، لكلٍّ منها سرديتها وخطابها الأيديولوجي. يقصد باقتصاد الحرب في هذه السلسلة الاقتصاد السياسيّ للحرب، لا علم اقتصاد الحرب، فهذا من شأن المتخصّصين أفراداً ومؤسسات.
أولاً: الأسرة النووية
اتّسعت ظاهرة الأسرة النووية اتّساعاً ملحوظاً، خلال نصف القرن الماضي، وبات من الممكن اعتبارها نواة الهيكل الأساسي للمجتمع، إلى جانب العائلة الممتدة والعشيرة. وعلى الرغم من كون الأسرة مؤسسةً طبيعيّةً، إلا أنها ترتبط بالمجتمع الأهليِّ وبوادر المجتمع المدنيِّ بروابط ضرورية، اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية، تؤثر في بنية الأسرة ووظائفها، ولاسيّما التنشئة والتربية وغرس القيم الأخلاقيّة في نفوس الأطفال، وتتأثر بها. وإذ تتحدد علاقة الأسرة النووية بكلٍّ من العائلة الممتدة والعشيرة بدرجة تمدّن المجتمع، فإن الروابط الأوليّة أو العلاقات الشاقوليّة، الموسومة بالتبعية وخضوع الصغير للكبير والمرأة للرجل والمريد للشيخ والفقير للغني … إلخ قد تتحوّل تدريجياً إلى علاقات صداقةٍ ومحبةٍ وتعاون، أي إلى علاقاتٍ أفقيّةٍ وشبكيّةٍ، وهذا بالضبط ما يجعلها تنفتح على التمدّن، وتندرج في علاقات المواطنة والاهتمام بالآخر المختلف، لا مجرد القبول باختلافه، وذلك تبعاً للتحوّلات الاجتماعيّة – الاقتصاديّة والثقافيّة والسياسيّة ومدى عمقها ورسوخها المرتبطين بديناميات النمو ونموذج التنمية الإنسانية المتعددة الأبعاد.