*مقال,K

في الامبراطوريات الإعلامية/”الثقافية”

نشرت المقالة في ٤ آذار ٢٠١٥، في جريدة الحياة اللندنية، واختفت عن الانترنت حين اختفى موقع الجريدة بعد إغلاقها.

لم يكن عزمي بشارة الوحيد الذي حصل، عبر علاقته مع شبكة إعلامية عملاقة، على لقبٍ رسميٍّ: مفكّر، ولكنه كان الأبرز خلال السنوات الماضية. كما سُلّطت عليه الأضواء بشكل أكبر نتيجة إنشائه امبراطورتيه الثقافية الإعلامية الخاصّة. من مركز دراسات يمتلك مواردَ هائلة، وصولاً إلى جريدة ورقية، ومحطة فضائية. وهو بهذا تحوّل إلى مركز سلطة، ما يزيد من صعوبة انتقاد ما يطرحه فكرياً، وما يمثّله سياسياً، لما أصبح يحوز عليه من تأثير عبرها، ونتيجة شبكة المصالح التي بات يتحكّم بها في الوسط الثقافي. هناك شيءٌ من الأمركة في هذا الصدد، ولكنه غير محصورٍ في “امبراطورية عزمي بشارة”، وإن كان ظهورها يمكن أن يُعتمد تاريخاً لجديد في هذا الشأن، نظراً لكونه زعيم حزب يمتلك اجتهادات خلافية.
تنامي قوة شبكات إعلامية عملاقة، تقبض على عنق الثقافة، للدرجة التي تدفع للخلف ما تبقّى من مؤسسات متوسطة أو صغيرة، على طريق إنهائها، هو الإطار العام للمعضلة التي نحن في صددها. وحتى في فرنسا، حيث هناك مؤسسات عريقة، وهناك إعلام حزبي، ظهرت هذه المشكلة بشكل فاقع حينما وصل الرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، محمَّلاً على قوة تأثير الشبكات الإعلامية. الأمر الذي أيقظ هواجس التأثير الأحادي الذي يُمكّن بالنتيجة من يمتلكه على حجم مبالغ به من السلطة. بينما وقع في إيطاليا المحظور حينما تحوّل مالك شبكات إعلامية، هو سلفيو برلسكوني، إلى مشكلةٍ وطنيةٍ بوصوله إلى الرئاسة. وفي منطقتنا، حيث استقلالية الثقافة والمثقف عن السلطة ضعيفة أصلاً، تأتي شبكات الإعلام العملاقة مهدِّدة بإنهائها تماماً. يشبه الأمر ما كنا نقوله عن الاستبداد السياسي في بلادنا، حيث تختلف السلطات الحاكمة على كل شيء إلا على حماية حكمها من الانهيار. ومثل هذا يحصل في حقل الإعلام، حيث تنشأ شبكات عملاقة، تمارس السلوكيات نفسها، وتتنافس على الدور نفسه، وهو ما يدمّر النزر اليسير من الحرية المتبقّي للفرد -والقطاعات الاجتماعية- ليستطيع تشكيل رأيه باستقلالية، كما يهدّد ما تبقّى لنا من مثقفين مستقلين، إذ يتم احتكار سبل الانتاج الإعلامي والثقافي من قبل هذه الشبكات.
يبدو الأمر وكأننا ندافع عن الرأسمال المتوسط في مواجهة “التروستات” العملاقة، وهو شيء من هذا، وننحاز إلى تنظيم السوق بشكل يكبح ميل الأقوى للاحتكار، وندعو إلى نشوء مؤسساتٍ تعاونية تساعد الطبقة الوسطى على مقاومة إفقارها، ومن ثم زوالها. وإذا كان على مستوى الاقتصاد، وفي العمل الثقافي الكثير من الاقتصاد، لا يأتي الدفاع عن المشاريع الصغيرة والمتوسطة من الاهتمام بمصير أصحابها فقط، وإنما يأتي أيضاً للحفاظ على دورهم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي -فعلى المستوى الثقافي يكون استمرار هذه المشاريع ضمانة لمشاركة اجتماعية أوسع في الحقل الثقافي. نتحدث عن منطقة التوازن الاجتماعي؛ وأيضا عن خزان الثقافة حيث يُصنع المثقف المستقل، وتُصنع آليات إنتاج وإعادة إنتاج استقلاله، التي هي هي ثقافته. وبهذا أيضا ندافع عن المؤسسة الكبيرة التي بإمكانها بناء حرفيين جيدين في مصانعها، ولكنها تمتص إراداتهم الحرة مسبقاً، ما يمنع تشكّل الشخصية المبدعة في كنفها، الأمر الذي يجعلها بحاجة دائمة لاستقطاب الإبداع من خارجها.
في غياب المؤسسات الثقافية الصغيرة والمتوسطة، والتنوع والتعدد الذي تنتجه، تتغوّل الشركات الإعلامية العملاقة فتنمّط الناس، وتشغلهم بما تفرضه على أنه “موضوعات الساعة”؛ فتُملي عليهم أولوياتهم، احتياجاتهم، وتهمّش مفكرين، وتكرّس مفكرين بعد أن تحدّد لهم مسبقاً ما يجدر قوله. الأمر الذي يعاني منه المجتمع الغربي، وفي مقدّمته الولايات المتحدة الأمريكية التي يغيب عنها –إلى حد بعيد- الإعلام والثقافة الحزبيان. ولكن أيضا يحصل هذا، كما أسلفنا بمثال فرنسا، في دول لديها اعتزاز بتنوعها الثقافي، بما فيها الثقافة الحزبية، ومؤسسات ثقافية وإعلامية متوسطة لكل منها جمهورها ومن ثم مواردها.
إنها الأمركة ولا ريب. ولكن حتى في الولايات المتحدة، هناك حرصٌ -إلى حد ما- على منع الاحتكار، وحماية مساحة لمبادرات قد تجد دعماً من فئات اجتماعية تعبّر عنها، ولربما من قبل الدولة. وربما يكمن هنا أحد أهم أسباب ضعفنا أمام هذه الامبراطوريات، إذ لا يوجد لدينا دول ديمقراطية يُتاح فيها المشاركة السياسية التي تستطيع عبرها الفئات المتضرّرة الدفاع عن نفسها، وتحصيل الحماية والدعم لتأمين القدرة على الاستمرار، إن كان من الدولة أو من المجتمع المدني. بل إن شبكات الإعلام العملاقة أتت على خطاب تحريرنا من سطوة مؤسسات الإعلام التابعة للدولة التسلطية العربية، لنكتشف مع الوقت أن في إعلام الدول، ومنها الدولة التسلطية العربية، ميزة لا يوجد ما يشبهها لدى الامبراطوريات الإعلامية، كامنة في أنه يخلق –رغماً عنه- مسافة بين “حقائقه” وبين المتلقي نتيجة: سلوك الدولة التسلطي، إخفاقاتها، بالإضافة لخدمته مصلحة أهل الحكم في استمرار حكمهم بشكل واضح، بينما تقدّم الشبكات الإعلامية العملاقة “حقائقها” مخفية المصالح التي تخدمها بعيداً عن الأنظار، مرتدية زيّ الفضيلة. أي أن إعلام الدولة يمتلك عوامل تُضعفه، الأمر الذي يفسح مجالاً أوسع، بالمقارنة مع امبراطوريات الإعلام، ليبحث الفرد عن حقائقه الخاصة، وينتج رأيه الشخصي؛ ما يجعل الأخيرة، وتحديداً حين تؤدي لتراجع/إفلاس المؤسسات الأصغر، سبباً من أسباب تراجع مساحات الحرية الضيقة أصلاً.
في بلادنا الأمركة تأتي من دوائر ضيقة، ولمصلحة فئة أشد ضيقاً، لتسحق الجميع. ويبقى السؤال مطروحاً، عن السبيل لحماية ما تبقى من هواء غير مصادَر لنتنفس.

رابط المقالة الأصلي

alhayat.com/Opinion/Writers/7808102/%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%85%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D9%91%D8%A9-%C2%AB%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9%C2%BB?fbclid=IwAR3BePiJQG9Kaw1VCssILLPquBtI58i-5Z_RVPOHTsb2LLVCfI-GbglUNPE

يوسف فخر الدين

كاتب وباحث فلسطيني سوري مقيم في بوردو، فرنسا. من مؤسسي مركز دراسات الجمهورية الديمقراطية، مدير المركز.