إستراتيجيّة النظام تجاه الكرد في الثورة السوريّة وغيابها لدى المعارضة
عشيّة عيد النوروز في 21 آذار 2011، شوهد عناصر من أجهزة مخابرات النظام على أبواب المدارس في حيّ الأشرفيّة في حلب في موعد انصراف التلاميذ، وهم يطلبون منهم إعلام أهاليهم بأماكن انطلاق الباصات إلى عفرين لمن شاء أن يحتفل بالعيد هناك، والسفر مجّاناً. وكانت مفاجأة كبيرة تنتظر من فضّلوا البقاء في المدينة والاحتفال في منطقة “حقل الرمي”. فهذه المساحة الشاسعة المتّصلة بالحواف الشماليّة لحيّ الأشرفيّة التي تُستخدم مكبّاً لنفايات المدينة، دأب كرد حلب على الاحتفال فيها بعيد النوروز كلّ عام، ولم تخلُ سنة من السنوات من احتكاكات بين قوّات حفظ النظام المدعومة بدوريّات أجهزة المخابرات وبين المحتفلين، غالباً ما كانت تنتهي باعتقال عدد من ناشطي حزب العمّال الكردستانيّ الذين كانوا دائماً على رأس فعاليّات النوروز.
أمّا في نوروز 2011، فقد فوجئ الواصلون إلى حقل الرمي بمشهد الساحة النظيف، بعدما تمّت إزالة النفايات وأكوام التراب بالجرّافات، وبوجود خزّانات ماء ضخمة في خدمة المحتفلين. في مساء اليوم نفسه، كان التلفزيون الحكوميّ ينقل، للمرّة الأولى في تاريخه، تقاريرَ مصوَّرةً عن احتفالات الكرد في الجزيرة وحلب ودمشق بعيدهم القوميّ، في إطار نشرة الأخبار الرئيسيّة التي تُبثّ في الثامنة والنصف مساء، وتُخصّص عادةً لما يريد النظام إيصاله إلى الشعب من رسائل مهمّة.
نحن نتحدّث عن اليوم الثالث للثورة السوريّة وفقاً لتقويم درعا. ففي يوم الجمعة 18 آذار خرجت أولى المظاهرات الشعبيّة من الجامع العمريّ في مدينة درعا احتجاجاً على استمرار احتجاز جهاز الأمن السياسيّ لأطفالهم الذين تمّ اعتقالهم قبل نحو شهر، بسبب كتابتهم على جدران مدارسهم شعارات مستلهَمة من ثورتي تونس ومصر. وواجه النظام هذه المظاهرة بإطلاق النار على المتظاهرين، فسقط فيها أوّل شهداء الثورة السوريّة وبلغ عددهم الستّة. في اليوم التالي كرّر جنود النظام إطلاق النار على موكب تشييع الشهداء الستّة، فقتَلوا أربعة شهداء إضافيين، وحلّقت طائرات الهليكوبتر فوق المشيّعين لإظهار عزم النظام على ضربهم بلا رحمة.
وفي يوم الجمعة التالي 25 آذار، خرجت مظاهرات تضامنٍ مع أهالي درعا في كلٍّ من بانياس وحمص ودوما في ريف دمشق. وشهدت مدينة القامشلي أوّل مظاهرةٍ شعبيّةٍ كرديّةٍ في إطار الثورة، رفع فيها الناشطون يافطات كتبوا عليها: “لا نريد الجنسيّة، بل نريد الحريّة!” في ردٍّ مباشرٍ على وعود النظام بمنح الجنسيّة السوريّة للكرد المحرومين منها منذ العام 1962، ويبلغ عددهم مئات الآلاف.
المجتمع السياسيّ الكرديّ: قدرة على التنظيم والحشد
أثبت الكرد، منذ بداية عهد بشّار الأسد، قدرةً مميزةً على التعبئة والحشد الجماهيريّ كلّما تعلّق الأمر بالتعبير عن مطالبهم في مواجهة النظام. ففي العام 2000، نظّمت بعض الأحزاب السياسيّة الكرديّة أوّلَ وقفة احتجاجيّة أمام مبنى البرلمان في دمشق، في اليوم العالميّ لحقوق الإنسان في العاشر من شهر كانون الأوّل، رفعوا فيها لافتاتٍ طالبوا فيها النظام بإعادة الجنسيّة السوريّة للمحرومين منها، وبالاعتراف بالحقوق الثقافيّة للشعب الكرديّ بما في ذلك حقّ التعلّم بلغتهم الأمّ. إضافة إلى مطالب وطنيةٍ عامّة تتعلّق بإطلاق سراح المعتقَلين السياسيّين ووقف العمل بقانون الطوارئ والأحكام العرفيّة المعمول بهما منذ الانقلاب العسكريّ البعثيّ في 8 آذار 1963.
كانت هذه أوّل تظاهرةٍ كبيرةٍ معارِضة للنظام، في إطار ما سمّي بـــ”ربيع دمشق” في وقتٍ كانت فيه بقايا الأحزاب السياسيّة المعارضة تتلمّس طريقها بحذرٍ بعد خروج كوادرها من سبات السجن الأسديّ الطويل. بالمقارنة مع هذه الأحزاب، أظهرت الأحزابُ الكرديّة قدرةً كبيرةً على الحشد واالتنظيم لقاعدتها الاجتماعيّة. وهكذا تولّد انطباعٌ، لدى كلٍّ من السلطة والمعارضة، بأنّ الكرد يمكنهم أن يعوّضوا عن فقدان المعارضة السوريّة لأيّ قاعدةٍ اجتماعيّة. وجاءت انتفاضة الكرد في 12 آذار 2004، لتكرّس هذا الانطباع. فالشرارة التي اندلعت من ملعب كرة القدم في القامشلي، سرعان ما انتشرت في جميع مناطق تواجد الكرد، من دمشق إلى حلب وعفرين وعين العرب (كوباني)، بما في ذلك جامعتي دمشق وحلب. حطّم الناشطون الكرد، خلال أيّام الانتفاضة، تمثالاً للدكتاتور الراحل حافظ الأسد واحتلّوا ساحات المدن واشتبكوا مع قوّات الأجهزة. تمّ قمع الانتفاضة بحصيلةٍ من الخسائر بلغت عشرات القتلى والجرحى ومئات المعتقلين والطلاب المفصولين من جامعاتهم.
على المستوى السياسيّ، سبقت الحركة السياسيّة الكرديّة قوى المعارضة في اتخاذ موقفٍ واضحٍ من الثورة السوريّة. ففي أوائل أيّار 2011 اجتمعت معظم الأحزاب الكرديّة في مدينة القامشلي وأصدرت بياناً وضعت فيه تصوّرها لحلٍّ سياسيٍّ للأزمة، اتسم بالاعتدال ودعا إلى إجراء حوارٍ بين السلطة والمعارضة لحقن الدماء ووضع مبادئ لإصلاحاتٍ ديموقراطيّة، من ضمنها تحقيق المطالب المشروعة للشعب الكرديّ في إطار وحدة البلاد.
كانت قوى المعارضة السوريّة، بالمقابل، مشتّتة تجترّ خلافاتها التقليديّة وتظهر عجزاً واضحاً عن بلورة تحالفٍ متماسكٍ أصبح ضروريّاً وملحّاً في مواجهة التحديّات غير المسبوقة التي طرحتها عليها الثورة. كان اجتماع الدوحة الذي انعقد في شهر أيّار 2011 على عجل، بمبادرة من عزمي بشارة، مناسبة لأوّل وأهمّ انشقاق في صفوف المعارضة بين المتشدّدين والمعتدلين الذين ضمّهم معاً إعلان دمشق قبل سنوات، وتمخّض عن ولادة “هيئة التنسيق الوطنيّ لقوى المعارضة السوريّة” التي ستلعب، طوال السنوات التالية، دوراً سلبيّاً سيجيّره النظام لمصلحته. أمّا المتشدّدون الذين ميّزوا أنفسهم برفع شعار إسقاط النظام والانحياز إلى الثورة بوضوح، فسوف يمرّون بمخاضٍ طويلٍ قبل أن يشكّلوا “المجلس الوطنيّ السوريّ” بقيادة برهان غليون في تشرين الأوّل 2011.
في مطلع حزيران 2011 انعقد في مدينة أنطاليا التركيّة أوّل مؤتمرٍ لمعارضين متشدّدين، أغلبهم من شخصيّاتٍ عاشت أعمارها، أو قسماً منها، في بلاد المهجر، وغابت عنها الأحزاب والإيديولوجيات و.. المبادئ، لصالح خطابٍ شعبويٍّ أراد الاستيلاء على ثمرات الحراك الثوريّ. سجّل هذا المؤتمر أوّل توتّرٍ مع الحركة السياسيّة الكرديّة التي أحسّت أنّها مدعوّةٌ إليه كشاهد زورٍ وكديكورٍ مكمّل عاجزٍ عن التأثير. فما كان من المندوبين الكرد إلّا أن أعلنوا انسحابهم احتجاجاً على تهميشهم. هذا السلوك الانسحابيّ سوف يتجدّد في كلّ مؤتمرٍ تشارك فيه أحزابٌ وشخصيّاتٌ كرديّة، طوال السنتين التاليتين وصولاً إلى شهر أيلول 2013 حين سيوقع “الائتلاف الوطنيّ السوريّ لقوى المعارضة والثورة” و”المجلس الوطنيّ الكرديّ” اتفاقاً لانضمام الثاني للأوّل، يرجّح أنّهما أُرغما عليه من بعض الدول الممسكة بالملفّ السوريّ كالولايات المتّحدة والمملكة السعوديّة.
بعد خيبة أملها في مؤتمر أنطاليا، بدأت الأحزاب الكرديّة تبحث لنفسها عن إطارٍ مستقلٍّ يمثّل التطلّعات الكرديّة في زمن الثورة الوطنيّة الكبرى. انتهى هذا البحث إلى ولادة كيانين، بعدما تعذّر تشكيل إطار واحدٍ جامع، هما “المجلس الوطنيّ الكرديّ في سوريا” الذي جمع تحت مظلّته معظم الأحزاب التقليديّة الموزَّعة الولاء بين زعامتي مسعود بارزاني وجلال طالباني من جهة أولى، و”مجلس شعب غربي كردستان” الذي اقتصر على أنصار حزب الاتحاد الديموقراطيّ (PYD) الموالين لزعامة عبد الله أوجالان. وكانت المفاوضات بين مجموع الأحزاب التقليديّة من جهة وحزب الاتحاد الديموقراطيّ من جهة ثانية، تحضيراً لعقد المؤتمر الوطنيّ الكرديّ، قد انتهت إلى الفشل، فانعقد المؤتمر بغياب الاتحاد الديموقراطيّ، وقرّر أن يتحوّل بكامل عضويّته إلى كيانٍ سياسيٍّ جديد باسم “المجلس الوطنيّ الكرديّ في سوريا” الذي اتخذ لنفسه خطّاً سياسيّاً أقرب إلى الاعتدال في موقفه من النظام، مقابل موقف متشدّد من المعارضة السوريّة التي ربط أيّ تعاونٍ أو تنسيق معها بمدى قربها من “مطالب الشعب الكرديّ وحقوقه” التي ارتفع سقفها، فجأةً، من الحقوق الثقافيّة والاعتراف الدستوريّ بالقوميّة الكرديّة إلى صيغةٍ مموّهةٍ من الفيدراليّة تحت اسم “اللامركزيّة السياسيّة”.
عزل الكرد عن الثورة الوطنيّة
اشتغل التيّاران، على قدم المساواة، على احتواء الحركة الشبابيّة الكرديّة التي شكّلت تنسيقيّاتها مبكراً وشاركت في المظاهرات المناهضة للنظام منذ الأسبوع الثاني للثورة. قام خطاب الاحتواء المزدوج على التذكير بانتفاضة 2004 التي “خذل فيها العرب الكرد” بهدف نسف الثقة الضعيفة أصلاً. وراح ناشطو الفيسبوك الكرد يتصيّدون تصريحاً من هنا و”ستاتوساً” من هناك، ليصلوا إلى النتيجة المرغوبة ومفادها أنّ “المعارضة العربيّة أسوأ من النظام” (لنتذكّر تصريحاً لبرهان غليون في بداية قيادته للمجلس الوطنيّ، وكيف انفتحت عليه أبواب الجهنم الكرديّة). وحين بدا أنّ مفاعيل هذا النوع من التحريض سرعان ما تتبدّد في ظلّ فظاعات النظامّ بحقّ الناشطين السلميّين، وواصل الشبان الكرد مظاهراتهم، طالبهم “المجلسيّون” بالامتناع عن رفع شعار إسقاط النظام بدعوى أنّ هذا الشعار يستفزّ أجهزة المخابرات والشبّيحة، لكيلا يطال القمع الوحشيّ المناطق الكرديّة. لم يلقَ هذا الطلب آذاناً صاغية، وواصل الشبان الكرد رفع شعار إسقاط النظام، فكان “آخر الدواء الكيّ” من وجهة نظر مسلحي حزب الاتحاد الديموقراطيّ “الأوجالانيّين” الذين تولّوا قمع المظاهرات بنفسهم بدلاً من أجهزة النظام، فاستحقّوا لقب “الشبّيحة الأكراد” بجدارة.
هكذا انقسم المجتمع الكرديّ بين تيّارين رئيسيّين: تيّار المجلس الوطنيّ الذي اتخذ من اللافعل إستراتيجيّة له بانتظار ما سيسفر عنه الصراع بين النظام والثورة، وكانت هذه بدأت بالتسلّح دفاعاً عن نفسها في المجتمعات المحليّة منذ اقتحام مدينة حماة بالدبابات في شهر آب 2011؛ وتيّار حزب الاتحاد الديموقراطيّ الذي اتخذ لنفسه إسترتيجيّة أكثر تركيباً وأكثر غموضاً بسبب الهوّة الشاسعة بين ممارسته وخطابه الإعلاميّ. سأكتفي بصورة موجزة لهذه الإستراتيجيّة:
حين طرد النظام عبد الله أوجالان من دمشق، في أعقاب الإنذار التركيّ الشهير في شهر أيلول 1998، انتقل حزب العمّال الكردستانيّ الذي كان يعمل بحريّة في تجنيد الشبان الكرد السوريّين للتدريب في معسكراته في سهل البقاع اللبنانيّ، تمهيداً لإرسالهم إلى القتال ضدّ قوّات الجيش التركيّ داخل تركيا، إلى العمل السريّ بعدما أخذت أجهزة النظام تضيّق على نشاطاته وتعتقل أعضاءه وكوادره، فتسلّم بعضهم إلى السلطات التركيّة تنفيذاً لاتفاق أضنة، وتحتفظ ببعضهم الآخر في معتقلاتها وسجونها لحين الحاجة إليهم. في العلن انتهى وجود حزب العمّال الكردستانيّ في سوريا، وأخذ يبحث عن وسائل مواصلة نشاطه واستثمار قاعدته الاجتماعيّة لمصلحة صراعه ضدّ تركيا. انتهى هذا البحث إلى تأسيس حزبٍ سوريٍّ (حزب الاتحاد الديموقراطيّ PYD) “يستنير بأفكار عبد الله أوجالان” الأسير في سجنه التركيّ، حسب وصف رئيسه السوريّ صالح مسلم، ويشكّل “الفرع السوريّ لحزب العمّال الكردستانيّ” وفقاً لخصومه كما لجميع المراقبين المحايدين. أعني أنّ أحداً من خارج الحزب لا يصدّق قصّة أنّه حزبٌ سوريٌّ صرف لا يرتبط تنظيميّاً وفي آليّات اتخاذ القرار بالحزب الأمّ. إنّ سوريّته تقتصر على جنسيّة أعضائه فقط.
مع بداية الثورة السوريّة تقريباً بدأ مسلحو هذا الحزب يظهرون في المناطق ذات الكثافة السكانيّة الكرديّة مع غضّ نظر من أجهزة النظام. ومنذ خريف 2011 بدأ الحزب بتنظيم انتخابات أدّت إلى ولادة “مجلس شعب غربي كردستان” مزوّد بسلطة عسكريّة تحمي شرعيّته هي “وحدات حماية الشعب” (YPG) تشكّلت من شبان القرى والمدن الذين اجتذبهم الحزب لحمل السلاح من غير أن يكونوا بالضرورة أعضاء فيه.
سياسيّاً عرف حزب الاتحاد الديموقراطيّ أين يصطفّ. فانضم إلى “هيئة التنسيق” بقيادة الناصريّ حسن عبد العظيم، منذ تأسيسها في أيار 2011، إلى جانب عدد من الأحزاب الكرديّة التي انسحبت منها بعد وقتٍ قصيرٍ لتنضم إلى “المجلس الوطنيّ الكرديّ”. أما ميدانيّاً فقد تمدّد الحزب الأوجالاني بهدوء في المدن والقرى الكرديّة واهتمّ بتأمين احتياجات السكّان كسباً لودّهم، قبل أن تبدأ الصدامات الأولى مع المظاهرات الشبابيّة المناهضة للنظام ومع بعض الأحزاب الكرديّة المناوئة له والقريبة من الزعامة البارزانيّة (آزادي ويكيتي والبارتي). في خطابه الرسميّ التزم الحزب بخطّ هيئة التنسيق مع إضافة التوابل الكرديّة التقليديّة. وفي خطابه الشفهيّ حرّض بيئته الاجتماعيّة ضدّ الثورة والمعارضة الممثّلة بالمجلس الوطنيّ السوريّ، بدعوى أنّها إسلاميّةٌ إخوانيّةٌ تأتمر بأوامر الحكومة التركيّة المعادية لتطلّعات الشعب الكرديّ في سوريا كما في تركيا. وحين ارتفعت الأصوات المندّدة بقمع الحزب للمظاهرات المناهضة للنظام، بدأ ينظّم مظاهراته الخاصّة التي يرفع فيها شعار الحريّة لعبد الله أوجالان. وكان حريصاً على إخراج مظاهراته في غير أيّام الجمعة تعبيراً عن انفصاله عن الثورة الوطنيّة السوريّة التي اتخذت من صلاة الجمعة مناسبةً للحشد ضدّ النظام. في وقتٍ لاحقٍ، حين سيفقد شعار إسقاط النظام قيمته الاستفزازيّة، بعدما رفعت الثورة شعارات أكثر حدّة (الشعب يريد إعدام الرئيس.. يلعن روحك يا حافظ).. وبعدما انتشر السلاح في مختلف المناطق لحماية المظاهرات، سترفع مظاهرات الاتحاد الديموقراطيّ أيضاً شعار إسقاط النظام، دفعاً لاتهامه بمناصرة النظام والتشبيح لمصلحته.
هل عقد النظام صفقة مع حزب الاتحاد الديموقراطيّ؟
لا يملك أحد إثبات ذلك بصورةٍ موثّقةٍ. اتهام الحزب بالتحالف مع النظام، بل “العمالة” له كما تفعل بعض الأحزاب الكرديّة المناوئة له، لا يستند إلّا إلى بعض القرائن من ممارسته الميدانيّة. ومما يغذّي هذا النوع من الاتهامات أن ممثّلي الحزب، وفي مقدّمتهم رئيسه صالح مسلم، ووسائل إعلامه يكذبون كثيراً إلى درجة فقدان أيّ مصداقيّةٍ لخطابه المعلن. على سبيل المثال حين كانوا يقمعون مظاهرة كرديّة ضدّ النظام، كان صالح مسلم يظهر على شاشات التلفزيون ليقول إنّ المتظاهرين رفعوا الأعلام التركيّة وصور رئيس الوزراء التركيّ رجب طيب أردوغان، ثمّ يظهر متحدّثٌ آخر باسم الحزب ليقول إنّه لم يقمع المظاهرة، ويقول ثالثٌ إنّ المظاهرة لم تحدث. ورداً على اتهامه باختطاف رئيس حزب آزادي مصطفى جمعة، ينفي الحزب الواقعة ويتّهم جمعة، في الوقت نفسه، بتلقّي أموال من الحكومة التركيّة! وكان رفع علم الاستقلال السوريّ الذي أصبح رمزاً للثورة الوطنيّة، من أكثر الأفعال التي تستفزّ الحزب وتدفعه إلى قمع المظاهرات الكرديّة. المفارقة الغريبة أنّ علم كردستان نفسه كان يثير اعتراض الاتحاد الديموقراطيّ بدعوى أنّه “علم البارزاني”. في معركة الأعلام هذه كان الوحيد المقبول هو العلمُ الخاصُّ بحزب العمّال الكردستانيّ ذو الألوان الثلاثة الذي شبّهه بعض الظرفاء الكرد بعلم إحدى الدول الإفريقيّة.
ما يمكن تأكيده بهذا الصدد هو أنّ النظام عقد صفقته الشيطانيّة الخاصّة (ربما من طرف واحد) في سياسته الكرديّة عموماً: تسهيل الانتشار العلني لحزب الاتحاد الديموقراطيّ وغضّ النظر عن مسلّحيه (ويقال إنّه زوّدهم بالسلاح الفرديّ الخفيف أيضاً)، وعدم مواجهة المظاهرات الكرديّة المناهضة للنظام بالعنف المفرط، بل عدم مواجهتها إطلاقاً بعدما تولّى الأوجالانيّون هذه المهمّة بأنفسهم. اقتصر الأمر عموماً على اعتقال بعض ناشطي التنسيقيّات لكيلا تشعر هذه بالحريّة المطلقة. كان اغتيال القائد السياسيّ المعروف مشعل تمّو، في تشرين الثاني 2011، استثناءً لهذه القاعدة، أراد النظام من خلاله إيصال رسالة قويّة للفاعلين الكرد بوجوب ابتعادهم عن المعارضة السوريّة. فمن المعروف أنّ الشهيد مشعل كان عضواً (غير معلن) في المجلس الوطنيّ السوريّ الذي أعلنته المظاهرات، في طول البلاد وعرضها، ممثّلاً للشعب السوريّ في جمعة أطلقت عليها اسم “المجلس الوطنيّ يمثّلني”. اغتيل مشعل عشيّة خروجه من سوريا للالتحاق بالمجلس في اسطنبول، في وقت بدا فيه أن انضمام ممثّل كرديٍّ قويٍّ إليه من شأنه أن يقوّض إستراتيجيّة النظام الموجّهة لحصر الثورة في المكوّن العربيّ السنيّ، مع محاولات مستميتة لعزل الأقليّات (الكرد والمسيحيّين والدروز) عنها وتوريط العلويّين بصورةٍ خاصّةٍ في قمع الثورة.
سبق للنظام أن دعا قادة الأحزاب الكرديّة للاجتماع به في دمشق، في شهر حزيران 2011، فرفضوا اللقاء به بعد تردّدٍ حسمه ضغط الرأيّ العامّ الكرديّ والوطنيّ. وفي تموز 2013 رشحت أخبار عن إيفاد رأس النظام ممثّلين عنه إلى مدينة القامشلي، التقوا بقادة الأحزاب الكرديّة ووعدوهم بشيء غامضٍ اسمه “حلّ قضيّة الشعب الكرديّ في سوريا”، أعلن حزب الاتحاد الديموقراطيّ، بعده بأيّام، عن عزمه على تشكيل حكومة تنفيذيّة لإدارة المناطق الكرديّة التي يسيطر عليها، وعن برنامج زمنيّ يتضمّن وضع دستور وانتخاب سلطةٍ تشريعيّة ثمّ تشكيل حكومة محليّة. وأكّد صالح مسلم في تصريحاتٍ إعلاميّةٍ عديدة أنّ هذه الخطوات لا تهدف إلى الانفصال، بل إلى إدارة المناطق الكرديّة التي سبق للنظام أنّ انسحب منها في صيف العام 2012. تلا ذلك، كما هو معروف، هجوم من “جبهة النصرة” و”دولة العراق والشام الإسلاميّة” ووحدات أخرى من الجيش الحرّ ومن ألوية خارج سيطرته، على مناطق سيطرة حزب الاتحاد الديموقراطيّ، بلغت إفراغ قرى كرديّة من سكّانها في منطقة تل أبيض بحجّة محاربة “الانفصاليّة الكرديّة” ممثّلةً بحزب الاتحاد الديموقراطيّ.
خلاصة
اتخذ النظام، منذ بداية الثورة، إستراتيجيّة تفكيك الخصم مستفيداً في ذلك من تنوّع مكوّنات المجتمع السوريّ ومن سياسةٍ عمرها أربعون عاماً من تخويف تلك المكوّنات بعضها من بعض وتأليبها بعضها على بعض، واستثمار انعدام الثقة بين المكوّنات الوطنيّة في تقديم الحكم المستبد كما لو كان حلّاً لمشكلة “طبيعيّة”. ربّما كان حافظ الأسد هو الشخص الوحيد في سوريا الذي لم يؤمن بشرعيّته وبحقه في منصب الرئاسة، ليس لأنّه وصل إلى السلطة بانقلابٍ عسكريٍّ أطلق عليه اسم “الحركة التصحيحيّة” فأطاح بحكم حزب البعث الانقلابيّ لصالح زمرة عسكريّة كان على رأسها؛ بل لأنّه ينتمي إلى الطائفة العلويّة، فعمل بدأب على طمس هذا الانتماء تحت غبار “وحدة وطنيّة” اختزلها إلى الولاء له، فحجّ هو وأخوه رفعت الأسد وابنه البكر باسل، واستصدر فتوى من موسى الصدر بشيعيّة علويّي سوريا، وحرّم كلمة “علويّ” ومشتقّاتها في التداول العامّ. وحين انفجر تمرّد الإخوان المسلمين في أواخر العام 1979، رأى الديكتاتور الراحل كوابيسه الطائفيّة تتحقّق، فلم يبقَ أمامه غير الحرب المفتوحة على المجتمع نظاماً لحكم السوريّين من قبل عائلةٍ أقليّة لا يمكنها اكتساب الشرعيّة بغير القبضة الحديديّة المحكَمة. فنمى غول أجهزة المخابرات التي بواسطتها روّض المجتمع والجيش والثقافة والاقتصاد جميعاً، وبواسطتها أدار سياسته الخارجيّة التي أقامها على توازناتٍ إقليميّةٍ ودوليّةٍ دقيقة مع ممارسة البلطجة والإرهاب مع الدول المجاورة لفرض نفسه “فتوّة الحارة”. وحسم خياراته الطائفيّة بصورة نهائيّة بالاعتماد على العصبيّة العلويّة في الداخل والتحالف الإسترتيجيّ مع إيران الشيعيّة في الخارج. ورث بشّار الأسد مخزوناً من “أوراق القوّة” لجأ إليه حين وصلت رياح التغيير العربيّ إلى قلب دمشق، فاتبع سياسة أبيه في قمع التمرّد الشعبيّ على مثال قمع تمرّد الثمانينيات، وسياسة تفرقة الخصوم على مثال إدارته للحرب الأهليّة في لبنان. وهكذا ورّط العلويّين وأثار مخاوف المسيحيّين وعزل الكرد عن الجسم الوطنيّ.
للاطلاع على الورقة في الكتاب:
[gview file=”http://drsc-sy.org//wp-content/uploads/2013/11/dictatoridm-strategy.pdf”]