القضيّة الفلسطينيّة بين عطالة الحالة الرسميّة والمبادرة الشعبيّة
مدخل
في ظلِّ حالة الغليان الشعبيّ الفلسطينيّ التي تشهدها الأراضي الفلسطينيّة والمنطقة. يصبح السؤال مشروعاً، إن كان يمكن للقيادة والنخبة السياسية الفلسطينيتين أن تعيدا النظر بسياساتهما على ضوء الواقع وبما يستجيب للحاجات الوطنية الفلسطينيّة، آخذة بعين الاعتبار الحلّة الفلسطينيّة و التغيرات التي يشهدها الإقليم؛ بحيث يتم تجاوز المفاهيم والسياسات المعتمدة على مدار عمر اتفاق أوسلو، من خلال سياسةٍ تعتمد توظيف أوراق القوة الفلسطينيّة والتي جرى تجاهل العديد منها، وبناء سياسة تعتمد قاعدة المصالح الشاملة للشعب الفلسطينيّ في مواجهة المصاعب والتعقيدات التي تواجهها القضية الفلسطينيّة.
سنحاول في ورقتنا هذه مقاربة الواقع الفلسطينيّ، من خلال رصد بعض المبادرات، ومقارنتها مع الحالة الرسمية، واقتراحها كمداخل لحلول على المستوى الوطنيّ.
الوطنيّة الفلسطينيّة خلف الخط الأخضر
قبل أيام احتضنت مدينة حيفا، في قاعة طمرة للأفراح، حفلَ زفاف مميزاً؛ إذ إن العريس والعروس يهوديان، بينما جلُّ المدعوّين كانوا من الفلسطينيين العرب، ومن سوريّي الجولان المحتل، وناشطين يهود معادين للحركة الصهيونيّة (على ما عرّفهم ناقلو الخبر) من داخل البلاد وخارجها. وازدانت قاعة الأفراح برايةٍ فلسطينية. ورقص المحتفلون، وغنوا، على وقع أنغام الأغنيات والدبكات الفلسطينيّة، وأغاني الشيخ إمام وزياد الرحباني. وجمعت “النقطة” 14 ألف دولار (تبرعات المدعوين للعريسين، التي تُجمع في العرس حسب العادات الفلسطينيّة المتّبعة). وجرى التبرع بها لصالح الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الإسرائيلي. الأمر الذي فسره “يوآف بار”، والد العريس، بأن الأسرى والمعتقلين يمثلون (رمزاً ) للقضية، فهم يختزلون قضية فلسطين ونضال أهلها من أجل العيش بحريةٍ وفي دولةٍ ديمقراطيّةٍ تتّسع للجميع”. بينما فسره ناشطون، مع مجريات الزفاف، على أنه تعبيرٌ عن عمق الانتماء للهويّة الفلسطينية، للعرب واليهود الذين يختارون أسلوب النضال المشترك. وهو ما يتناسب مع طرح يوآف بار ورفاقه، ومفاده: “لم نعد نناضل من أجل التعايش فقط، بل نناضل معاً ضد الصهيونية من أجل قيام دولة ديمقراطيةٍ على أساس من الحقوق المتساوية، وعودة اللاجئين إلى بلادهم”.
– قبل الزفاف ببضعة أيام دعت لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية في فلسطين\إسرائيل، المدن والبلدات والقرى العربية إلى إضرابٍ شامل. وذلك عقب إعدام الشرطة الإسرائيليّة الشاب خير حمدان من بلدة كفركنا. وترافق الإضراب، الذي تمّ في 29 تشرين الثاني مع مواجهات واعتصامات نظمت في كفر كنا، كفر قاسم، شفا عمرو، الناصرة، عكا، طرعان، باقة الغربية، كابول، الطيبة، أم الفحم وغيرها، حيث اعتقلت القوات الإسرائيلية 29 مواطناً عربياً فلسطينياً داخل الخط الأخضر إضافة إلى اعتقال 24 مواطناً في بلدة كفر كنا وحدها.
وفي ردّه على التحرك الفلسطينيّ طلع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو بتصريح اعتُبِر بمنزلة تهديدٍ للفلسطينيين. حيث أكد “أن كلَّ من يرغب بالرحيل إلى الجانب الآخر (أي إلى مناطق السلطة الفلسطينيّة) فليرحل” معتبراً ما جرى من أحداثٍ في كفركنا، وغيرها من المناطق، صدى لما يجري في القدس والضفة. وهكذا، ودون قصد، أقرَّ نتنياهو بفشل أهمّ مفاعيل اتفاق أوسلو السيّىء الصيت والمتمثل في إطاحة وحدة النضال الوطنيّ الفلسطينيّ وإعادة تشكيله إلى داخل وخارج وشتات لا رابط “تمثيليّ” بينهما في الواقع الراهن .
مشهد الغليان في الضفة الغربية والقدس
أما في الضفة الغربيّة فقد استمر التوتر والمواجهات منذ ما قبل الهجوم الوحشيّ على غزة، والذي تسبب بسقوط الآلاف بين قتيلٍ وجريح، وبلغت ذروة المواجهات في القدس حيث شكلت العنوان الرئيس لمواجهة الاحتلال، التي باتت تأخذ أشكالاً مختلفة، سمتها الأبرز أن من يقوم بها قد ناله نصيبٌ كبيرٌ من قهر وعسف الاحتلال. وتظهر المواجهات، بما فيها الاندفاعات الفردية، مثل قيام أفرادٍ محبطين إلى “دهس” عساكر إسرائيليين في القدس المحتلة، تظهر حجم معاناة الفلسطينيين المستمرة؛ من تغوّل الاستيطان، وعمليات تهويد القدس، ومصادرة الأراضي، والاعتقالات العشوائية، وافتقاد أي أفقٍ لتسوية عادلة. ويلفت انتباه المراقب تشجيعٌ عامٌّ للمبادرات الفردية، عُبّر عنه بتشبيه وقع عمليات الدهس سابقة الذكر بقوى تظهر في وسائل الإعلام بقوة مثل “تنظيم دولة الإسلام في العراق والشام” التي يطلق عليها اختصاراً “داعش”، فأشيع تسمية “داعس” على الاندفاعات الفردية لدهس العساكر الإسرائيليين عبر شبكات التواصل الاجتماعي.
وتظهر ردود الفعل الشعبية الفلسطينيّة حالة رفضٍ عام على الحالة الرسميّة الفلسطينيّة، والتي لم تنجح في التخفيف من معاناة الفلسطينيين على مختلف الصعد، و لم تنجح في تجاوز حالة الانقسام على الرغم من الضرر البالغ المترتب عليه على مختلف الصعد. والمحزن في الأمر أن هذه المواجهات الشعبية مع الاحتلال تجري في ظلّ استمرار حالة العداء والتنافس والصراعات بين السلطة الفلسطينيّة وحركة حماس. وتجدده دورياً دون مبرراتٍ موضوعية، وكأنه يعطي طرفي الصراع المبرر لعدم إجراء مراجعة جدية لسياساتهماـ المراجعة التي تسمح لهما في الإسهام في دعم وتوظيف هذا الحراك في القدس والضفة ومناطق 48. في الوقت الذي نعاين بالعين المجردة الأوضاع المتفجرة التي تسود المنطقة والإقليم، والخشية من التغييرات المقبلة التي سوف تترتب عليها؛ سواء لجهة الحدود بين دولها، أو حتى داخلها، أو الحقوق على صعيد الأفراد والمجتمعات المكوّنة لها، ودون أن يستطيع أحدٌ أن يستبطن إلى أين ستؤول الأمور وفي أي اتجاه ومدى زمنيٍّ وجغرافيّ. إضافة إلى التغيرات التي نشهدها على الموقف الدولي حيال المسألة الفلسطينيّة (السويد وفرنسا وبريطانيا على سبيل المثال).
تنامي التضامن الدوليّ والانشغال العربيّ
أما على الصعيد الدولي فقد ترافق ما سبق مع تعديلٍ واضحٍ في المزاج والمواقف الدوليّة، تجلّت بشكل لافتٍ من خلال حملات التضامن والتظاهرات الضخمة، وبعشرات الآلاف، تضامناً مع الشعب الفلسطينيّ جراء العدوان الإسرائيليّ على قطاع غزة. وكانت قد امتدت هذه التحركات لتشمل الولايات المتحدة وأوروبا وأمريكا اللاتينية بشكل غير مسبوق، والتي سبقها أيضاً حركة مقاطعةٍ فعالةٍ لمجالات إسرائيلية متعددة، على الصعيد الأكاديميّ و حملة مقاطعة منتجات المستوطنات الإسرائيلية، وهي حملاتٌ أخذت تتّسع وتهدد إسرائيل بعزلةٍ دوليّةٍ، ولاسيّما أن من يتبنّى هذه الحملات في أوربا مؤسّساتٌ أوروبية عريقة، لتعيد للأذهان التحركات التضامنيّة التي عرفتها الانتفاضة الأولى، والتي عرفت بـ”انتفاضة الحجارة” والاستقلال.
ذلك هو المشهد الفلسطينيُّ والدوليّ. أما المشهد العربيّ فقد شكل نقيضاً للحالة الفلسطينيّة والدولية. فقد غاب العرب عن الصورة أنظمة وشعوباً، وقد استهلكتهم أوضاعٌ داخليّةٌ باتت شديدة التعقيد، تطورت إلى صراع إقليميٍّ ودوليٍّ من الطراز الأول. تداخل فيه الصراع من أجل الحرية والكرامة، مع مواجهاتٍ مذهبيّةٍ تنذر بحروب أهلية ومذهبية تؤدي الصراعات الإقليمية والدولية فيها الدور الأساس.. مضافاً إلى ذلك كلّه إرهابٌ خلط كلّ الأوراق، ووضع الجميع أمام تحديات لا قبل لهم بها. وهو ما تبدّى بشكل حالةٍ من السيولة لمنطقتنا العربية، لم نعهدها من قبل .
القضية الفلسطينيّة والتحديات:
على المستوى الرسميّ الفلسطينيّ تمارس السلطة الفلسطينيّة في بعض مناطق الضفة الغربية، وحركة حماس في قطاع غزة، سلطة مقيدة إلى حدود بعيدة (اتفاق أوسلو-الحصار الإسرائيلي). والسمة الرئيسة للوضع فيهما كونهما تعانيان من أوضاع مركبة ومعقدة؛ حيث تمارس إسرائيل فيهما نظام الفصل المبنيّ على التمييز، مثل إنشائها في المنطقة نفسها جهازين قضائيين منفصلين، أسوة بنظام التفرقة العنصرية (الابرتهايد) الذي ساد في جنوب إفريقيا. وحيث تستمر سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بهدف خلق وقائع على الأرض تضمن استحالة التواصل الجغرافي في القدس والضفة عبر توسيع سياسات الاستيطان، وهو ما يجعل الحياة الطبيعية للسكان الفلسطينيين شبه مستحيلة. ولهذا الهدف تستمرُّ سلطات الاحتلال بمصادرة آلاف الدونمات من الأراضي الفلسطينيّة، وقد أقامت فيها مئاتٍ من الكتل الاستيطانيّة تضمُّ أكثر من نصف مليون مستوطن نصفهم في القدس. وتمتد هذه الكتل الاستيطانية طولانياً عبر أربع كتلٍ استيطانيّةٍ ممتدة من شمال الضفة إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها، وتمكنها من سيطرتها على مداخل ومخارج المدن والبلدات، ومحاور الطرق، وزيادة صعوبة الحياة على الفلسطينيين، والحدِّ من حركتهم، عبر نشر حواجزها العسكريّة على طول هذه الطرق.
وفي السياق ذاته يأتي جدار الفصل العنصريّ، وعمليات التهويد المستمرة في القدس الشرقية التي وصلت إلى حدودٍ باتت تهدد الوجود الفلسطينيّ فيها. ودون أن ننسى السيطرة على المعابر، والثروات المائية، وربط الاقتصاد الفلسطينيّ بالاقتصاد الإسرائيلي، وتقييده من خلال بروتوكول باريس الاقتصادي، وأخيراً سياسة الاعتقالات المستمرة واغتيال الناشطين، والإذلال اليوميّ على الحواجز. ودون أن ننسى الحروب الهمجية المتكررة على قطاع غزة واستمرار الحصار المستمر عليه.. إنّ كلَّ ما سبق يدعونا وببساطة لاستنتاج مفاده: أن قيام دولة فلسطينيّة قد تحوّل إلى حلمٍ يستحيل تحقيقه. وهو ما بات محطَّ إقرارٍ من أطرافٍ متعددة فلسطينيّة وعربيّة ودوليّة.
ورغم ذلك تصرّ السلطة الفلسطينيّة في مواجهة كلّ هذه التحديات المصيرية، على اختصار كلّ دورها الوطنيّ والسياسيّ والدبلوماسيّ والجماهيريّ المفترض، و حشر نفسها، والشعب الفلسطيني معها، في إطار خيارٍ أوحد (المفاوضات والعودة إلى المفاوضات) باعتباره الخيار الإستراتيجي الذي لا بديل عنه. وبهذا تفقد نفسها، والقضية الفلسطينيّة، أبرز مصادر القوة والأوراق التي يمتلكها الفلسطينيون في مواجهة العنجهية الإسرائيلية. حتى إن خيار التوجه للأمم المتحدة وتفعيل واستكمال عضويتها في الهيئات الدولية المختلفة يبقى خيارا ًللمناورة ليس إلا، وليس خياراً يمكن أن تمضي السلطة فيه حتى نهاياته. ولتتساقط أوراق القوة الفلسطينيّة الواحدة تلو الأخرى، نتيجةً لفهمٍ ووعي متأصلٍ لدى هذه السلطة، يتمثل باعتبار الصراع الفلسطينيّ الإسرائيلي صراعاً سياسياً دبلوماسياً، يجري حلّه بالتفاوض بين الطرفين المتخاصمين بالطرق السياسية والدبلوماسية. وليس كما هو واقع حال القضية الفلسطينيّة بما هي صراعٌ بين حركة تحرّرٍ وطني، وسلطة احتلال واستيطان، وتغييب لحقوق شعبٍ برمته عانى على مدار أكثر من ستين عاماً مرارات اللجوء والتهجير وعسف الاحتلال. وإن مقاومة هذا الاحتلال بكل الوسائل المتوفرة والتي تضمن مشاركة القطاعات الأوسع من الشعب الفلسطينيّ في كلّ أماكن تواجده في إطار الخصوصية والوحدة ،تشكل أقوى أوراق القوة الفلسطينية وأكثرها أهمية على طاولة المفاوضات.
مع هذا، ورغم الفشل المتكرر الذي تحصده هذه السياسات، تصرُّ السلطة (في الضفة وغزة) على التماهي مع سياسات الأنظمة العربية الشمولية، عبر تجاهل أهمية دور أوسع القطاعات والبنى والمؤسسات المدنية والشعبية، والإمكانات الهائلة لمثقفين وقانونيين وخبراء وإمكانات مالية للفلسطينيين المنتشرين في أنحاء الأرض. تتجاهل هذا كله وتكرس سلطة زبائنية بما هي سلطة الأمر الواقع المسلحة بفائض القوة الذي تمتلكه من سلطات مفوضة بها (السلطة الأمنية ) بالأساس والسلطة المالية (الدول المانحة وعائدات الضرائب)، بهدف تكريس سلطةٍ بيروقراطية، تجاوز عدد العاملين أو المستفيدين منها 300000 يشكلون (قاعدة لهذه السلطة) وجلّهم من المؤيدين أو المحازبين أو المضطرين والمحتاجين لدخل يؤمن معاشهم. مضافاً لذلك سياسة ممنهجة لتقويض البنى المدنيّة المستقلة، من خلال تغوّل دور العديد من المنظمات غير الحكوميّة، والتي باتت أجنداتها لا تستجيب لدورها الوطنيّ المفترض، وإنما لمتطلبات وأجندات الدول المانحة، واشتراطات السلطة. ويجري هذا كله في ظلّ محاصصةٍ أخذت مؤخراً طابعاً فتحاوياً –حماسياً بالدرجة الأولى، وأشركت به بقية القوى الفلسطينيّة كشريك مضارب من الدرجة الثانية والثالثة. وبهذا أحيلت واحتكرت آليات اتخاذ القرار لنخبٍ بيروقراطيّة امتهنت العمل السياسيّ. وحوّلت الإطار الفلسطينيّ الجامع (منظمة التحرير الفلسطينيّة) من كونها رمزاً يمثل الكيانية الفلسطينية، ومعبراً وممثلاً لها في كلّ أماكن تواجده وتعبيراً عن وحدة أهدافه ومصالحه. حولتها إلى مجرد واجهةٍ يستعان بمناصبها الرئيسة للنطق باسم الشعب الفلسطينيّ في المناسبات. وفي مجرى الصراع الداخليّ لاقتسام المناصب، بعد أن أفرغت من كلّ مضمون يعبر عن دورها ووظائفها ومحتوى ومضمون تمثيلها للشعب الفلسطينيّ ووحدة أهدافه النضالية. وباعتبار القضية الفلسطينية مازالت قضية تحرر وطنيٍّ من الطراز الأول. وهو ما جعل أي عملية تغيير داخل هذه البنية عملاً عسيراً ومعقداً إن لم يكن مستحيلاً.
وبما أن “دوام الحال من المستحال” كما يقول المأثور الشعبي. وأمام الوقائع الميدانية الإسرائيلية من قمع واستيطان وتهويد وسلسلة من الإجراءات القمعية التي لا تنتهي، وانغلاق الأفق أمام أي تسويةٍ عادلة. وفي موازاة هذا الفشل الموصوف للقيادة الفلسطينية، لا يتبقى أمام الفلسطينيين إلا أخذ المبادرة بأيديهم في إطار نضالاتٍ يومية أخذت طابع الفردية. ومن ثمَّ بدأت بالاتّساع ويبدو أنها تسير إلى أن تأخذ طابعاً انفجاريا (انتفاضة) على سبيل المثال لا الحصر في وجه الاحتلال الإسرائيلي، سيكون من الصعب والمحرج على السلطة أن تتصدى لها. وهي تحركاتٌ بات مرشحاً لها أن تمتد وتتسع ولتتطور. ولتجد السلطة نفسها محشورةً بين ضغط الاحتلال والقوى الإقليمية والدولية من جهة، وبين ضغطٍ جماهيريٍّ يضع حداً لما تبقى من سياسات أوسلو. ذلك أن الفلسطينيين يدركون بوعيهم المتشكل على مدار قرن من النضال المتواصل، الموقع الذي تحتله القضية الفلسطينيّة في الوجدان الإنساني وفي أوساط قطاعاتٍ واسعةٍ من الرأي العالميّ بعدالة هذه القضية، والأهم باستمرار إصرار شعبها على مواصلة هذا النضال على أكثر من قرن. حيث استمرت حركة التحرر الوطنيّ الفلسطينية حتى الآن كآخر حركة تحرر في العالم. وحرياً بنا أن نعتبر ما تشهده المنطقة العربية، لا يمكن فصله عن النضال الفلسطينيّ والذي كان سبّاقاً للمطالبة بالحرية والكرامة والاستقلال بمعانيها العميقة وبمحتوى ديموقراطيّ. وفي هذه اللحظة التاريخيّة التي يجري فيها إعادة رسم الخرائط لحدود وحقوق شعوب المنطقة، وبما فيها قضيتنا، وهو يتطلب ولاسيّما من الفلسطينيين، وفي مختلف مواقعهم السياسية والمدنية والاجتماعية والفكريّة والثقافية والجغرافية، وقفة جادّة لإعادة صياغة مضمون وأهداف النضال الوطنيّ الفلسطينيّ الجامعة، والتي تعيد وحدة الشعب ومؤسساته إلى قواعد أملتها، وتمليها، المصالح الفلسطينية لعموم الشعب الفلسطيني في إطارٍ من الخصوصية والوحدة. بما يأخذ بعين الاعتبار الواقع السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعي في البرنامج الخاصّ لكلّ ساحة، وبما يؤدي لتقاطع ووحدة هذه البرامج التي تخدم الهدف النهائيّ في نوال الشعب الفلسطينيّ حقوقه المشروعة.
المبادرة الشعبية مدخل الحلّ الوطنيّ
في مقابل العطالة في بنية وسلوك الحالة الرسميّة الفلسطينية (الفصائليّة، والسلطويّة)، يشهد الواقع الفلسطينيُّ مبادراتٍ سياسيةً للحراك الشعبيّ مختلفة نوعياً، ذكرنا منها اللقاء العربي اليهودي التقدمي المعادي للصهيونية التي أخذت مثالها العرس في حيفا سابق الذكر، والمبادرات الشعبية الجماعية في القدس ومخيمات اللاجئين في الضفة الغربية على وجه الخصوص. ويمكن تأمل هذه المبادرات، لإدراك الآفاق المختلفة التي تعد بها إن تحوّلت إلى برنامج وطنيٍّ شامل. ومنها كيف خاض الحراك الشعبي في داخل الخط الأخضر مواجهته مع الأضرار الجسيمة التي ألحقتها “اتفاقية أوسلو” بنضالات الفلسطينيين هناك. وكيف تمكنوا من صياغة برنامج نضالي لتجاوز فك الارتباط، الذي كان من أهداف “اتفاقية أوسلو”، بينهم وبين بقية الشعب الفلسطينيّ على مستوى البرنامج النضاليّ، وأهدافه النهائية. وهو ما تؤكده مجريات الكفاح والحياة اليومية، والتي تؤكد المسار الصاعد باضطراد للهوية الوطنية للبنى المدنية والسياسية الاجتماعية والثقافية والفنية للمجتمع الفلسطينيّ بعيداً عن أشكال التطرف (يميناً أو يساراً) وبوجهةٍ ديمقراطيّةٍ وبآفاق تقدمية متنورة ، تتقاطع في العديد من ممارساتها مع اتجاهات اليسار الجديد المنفتح على بقية التيارات الفكرية والفلسفية المتقاطعة مع توجهاتها المجتمعية والسياسية. وكان قد وجد هذا النهوض تجلياته في النهوض الذي بتنا نلمسه على الصعد الإبداعية في المجالات الفكريّة والثقافية والأدبيّة والفنيّة والمسرحية، كتعبيرٍ عن حالةٍ مجتمعيّةٍ ناهضة، شكّل جيلٌ من المبدعين حاملها الرئيس؛ مستكملةً بذلك حواملها الفكرية والثقافية والفنية، معززة هويتها القومية وانتماءها الفلسطينيّ على أرض الآباء والأجداد.