بعد جريمة سليمان الأسد الأخيرة: الموالون يتخطّون الممنوع، والنظام خاسرٌ على كلِّ حالٍ
لأول مرّةٍ يُظهر أهل الساحل غضبهم بصورةٍ جماعيَّةٍ، ويتضامنون بصورةٍ منظّمةٍ نسبياً مع أهل الضحية التي سقطت على يد أحد الشبيحة الجدد من عائلة الأسد. في هذا ما يؤشر على تحوّلٍ في وعي الموالين وفي نوعيّة العلاقة بين السلطة وجمهورها. في الست زينب يعتصم جمهورٌ من الشيعة يتساءلون عمّا يجري في قريتي كفريا والفوعة بعد تقدّم “جيش الفتح” في المنطقة، وفي طرطوس يعتصم أهالي العساكر الذين تحاصرهم “داعش” في مطار كويرس في حلب، وفي اللاذقية أيضاً يحتج الناس على جريمةٍ رهيبةٍ لأحد شبيحة النظام في قتل العقيد حسان الشيخ أمام أسرته. بدأ يتشكّل في “سورية الحكومية” حراكٌ موالٍ معارض، أو معارض تحت سقف الموالاة. تتركز مادتنا على الحادثة الأخيرة التي ترتبط، دون شكٍّ، مع بقية حراك الجمهور الموالي.
جريمة قتل العقيد الشيخ وتداعياتها
باتت معالم جريمة “سليمان الأسد” التي ارتكبها في اللاذقية يوم الخميس في 5/8/2015 واضحةً بعد أن وصفها شقيق الضحية الذي كان متواجداً في السيارة مع أخيه المغدور. على دوار الأزهري، حيث يمرُّ أستراد الشاطئ الأزرق الذي يرتاده بكثرة “الأسديون” في ترددهم المتواصل على منتجع روتانا، يقدم الجاني على قتل الضحية بواسطة رشاشٍ إثر خلافٍ مروريٍّ، بعد أن كان الضحية قد عرّف عن نفسه بأنه عقيدٌ في الجيش.
لا تختلف جريمة قتل العقيد حسان الشيخ على يد المجرم المذكور بشيء عن الجرائم التشبيحية السابقة لها، سواء على يد المجرم نفسه أو على يد الشبيحة السابقين من عائلة الأسد. مرّت تلك الجرائم دون عقابٍ لأنها كانت مسبوقةً بجريمةٍ عامّةٍ واسعةٍ ارتكبها النظام، يمكن أن نسمّيها، درجاً على قول جبران خليل جبران، جريمة “قتل النفس” التي لا يدري بها البشر. والنفس المقتولة لا يمكنها أن تنهض لكرامتها. يبقى السؤال اليوم، لماذا أثارت هذه الجريمة ردة فعلٍ عامّةٍ أكبر من سابقاتها؟ ولماذا اضطر النظام أن يمدَّ الحبل لإعلامه كي يدين ويتهجم على أحد “الأسديين”؟ هل قامت “النفس الموالية” من موتها؟ وهل يمكن أن يحاسب الجاني؟
في البداية يجب أن نرى في جرائم آل الأسد، السابق منها والحالية، جريمة النظام قبل أن تكون جريمة الشبيح القاتل أو المغتصب. ذلك لأن السؤال البسيط الذي يتبادر إلى الذهن: ما هي القوة التي يحوزها هذا المجرم كي يضع كرسيه مثلاً في وسط طريق عام ويقطع السير؟ لماذا لا يجرؤ أحدٌ من الأهالي على ردعه من التعدّي على أملاكهم وكراماتهم؟ لماذا لا يجرؤ أحدٌ من أجهزة الأمن، التي تتحكم بكلِّ تفاصيل حياة السوري، القبض على هذا المجرم أو حتى على منعه من قطع الطريق؟ لماذا لا يملك الناس سوى الهرب من طريق هذا المجرم الذي يعتدي جهاراً على أعراض الناس؟ أين مكمن الخوف منه؟ الجواب البديهي، الذي يهرب الموالون من التفكير فيه، هو أن من يتجرأ على ردع هذا المجرم، حتى لو كان رئيس فرع أمن أو مسؤولَ شرطة أو محافظاً، لا يأمن انتقام السلطة العليا (الأسدية). لا تأتي قوة هذا الشبيح من شخصه ولا من وجود أقاربه على رأس السلطة في سوريا، بل من ثقته في أن هؤلاء الأقارب سوف يؤمنون له الحماية دائماً، وأنهم يعتبرون أن السماح بمعاقبة أمثاله إنما (يوهن نفسية) العائلة التي يجب ألا تكسر شوكتها عن خاصرة الناس. هذه هي الحقيقة التي تجعل هؤلاء الشبيحة مجرد أيدٍ عاريةٍ لنظام القتل العامِّ. هذه هي الحقيقة التي لا يريد أن يراها كلُّ من يحاول فكَّ الارتباط بين هذا المجرم والنظام، بالقول إن هذا المجرم يسيء لسمعة النظام السوريِّ.
ما الذي جعل جريمة سليمان الأسد هذه تثير حراكاً شعبياً؟
ثلاثة عناصر جعلت هذه الجريمة تحرك الرأي العام الموالي هي:
الضحية أحد ضباط الجيش الذي ارتفعت مكانته في نظر الموالين بصفته القوة التي تقف في وجه “الجهاديين”، حتى تحوّل البوط العسكريُّ إلى أيقونة، بعد أن جرى تشويه الأسباب الفعلية للحراك السوريِّ واختزاله في وعي الموالين، إلى كونه مؤامرةً وحركةً جهاديّةً طائفيّةً ومسعى واعياً لتدمير الدولة التي يقوم الجيش السوريُّ النظامي بحمايتها. كان لهذا العنصر دورٌ فاعلٌ في إثارة مشاعر الناس، وقد حاول محافظ اللاذقية أن يحذف هذا العنصر في مقابلته مع (إذاعة شام إف إم) حين احتجَّ على إدخال صفة ورتبة الضحية في الحادثة معتبراً أن القاتل أقدم على فعلته دون معرفة بهوية المقتول، غير أن شقيق الضحية أوضح في كلامه على المحطة نفسها أن المغدور عرّف بنفسه وصرّح للقاتل عن هويته دون أن يعني الأمر شيئاً لهذا الأخير. نفترض أنه لو كان الضحية شخصاً مدنياً لكانت ردة الفعل أقل حدّة.
في وعي الموالين، لم تعد سلطة الأسد اليوم كما كانت سلطة الأسد قبل آذار 2011. قبل هذا التاريخ كان الأسد الأب هو العصاميُّ الذي قطف السلطة بيديه وبحنكته وجلب اعترافاً عامّاً للعلويين الذين طالما عانوا من التهميش الدينيِّ والدنيويِّ (يذكّر الجاني سليمان الأسد بذلك على صفحته على الفيسبوك حيث يتوعد الذين تظاهروا ضده وطالبوا بإعدامه ويتهجم عليهم بالقول “آل الأسد اللي عملوكن عالم” أي رفعوكم إلى مرتبة البشر). كان هذا “الدَين” بمنزلة رأسمالٍ ضمنيٍّ في ذمة العلويين راحت عائلة الأسد تستثمره بأبشع ضروب الاستثمار، مستفيدةً من القوة العارية للسلطة (سلطتهم). وكانت فترة حكم الابن حتى 2011، في الوعي الموالي، مجرد امتدادٍ لحكم الأب، بالآليات نفسها وعلى مصادر الطاقة نفسها. اليوم بات الموالون يشعرون أن سلطة الأسد تستمر بفضلهم، وبفضل تضحياتهم؛ وباتوا يشعرون أنهم شركاءُ في السلطة من حيث إنهم دفعوا ثمن استمرارها الكثير من الدم والحرمان. وأكثر من ذلك، يأخذ الكثير من الموالين على النظام أنه قادهم في مواجهةٍ عديمة البصيرة كلفتهم الكثير، وكثيراً ما بدا النظام لهم كما لو أنه غير آبهٍ بجنوده، وكما لو أنه يتركهم أحياناً لموتٍ فظيعٍ على يد “الجهاديين” عن قصد أو عن سوء تخطيط، فضلاً عن الإهمال الشديد الذي يعانونه من حيث الطعام ومن حيث المعاملة ..الخ، جراء الفساد الذي ينخر مؤسسة الجيش.
يزيد من المرارة في الوعي الموالي أن النظام بعد كلِّ هذا يخسر عسكرياً، حتى بات (جيش الفتح) على تخوم اللاذقية. وأن غالبية الناس في معقل سيطرة النظام (الساحل)، باتوا يعيشون تحت خطِّ الفقر، وأن الشعور بالأمان شبه معدومٍ. لم يتبقَّ لدى النظام ما يشدُّ من عصب جمهوره بعد خسائره العسكريّة وتدنّي مستوى المعيشة والدمار العبثيِّ الذي حوّل سوريا إلى البلد الأتعس. في ظلِّ هذا التحوّل (إدراك الموالين أنهم شركاء في السلطة التي دفعوا عشرات آلاف الضحايا في سبيل استمرارها، والتراجع العسكريِّ للنظام مع الدمار الواسع والتدني الكبير في مستوى المعيشة)، بدا سليمان الأسد في جريمته كمن يصرف شيكاً كبيراً من دون رصيد، الأمر الذي أحرج البنك (السلطة) الذي كان يموّله، والذي قد يجد نفسه مضطراً لمعاقبته.
تفاعل النظام مع الجريمة
من الواضح أن السلطة تعاملت مع الحدث على أنه من صنعها، وتعاملت مع الجاني على أنه ابنها، وإلا لا معنى لتوافد كبار رجال الدولة في اللاذقية للتعزية، ولا معنى لترقية الضحية إلى رتبة عميد، وإعطائه مكانة الشهيد ..الخ. لو كان الجاني من غير عائلة الأسد لما وجدت السلطة نفسها في هذا الموقع، الأمر الذي يكرّس القناعة بأننا في سورية أمام حكمٍ عائليٍّ فعليٍّ. السلطة قتلت والسلطة تحاول لملمة مفاعيل جريمتها. هذه هي الصورة الحقيقية للمشهد في اللاذقية اليوم. وحين تقول أمُّ الضحية إن ابنها فداءٌ للرئيس إنما تقول في الوقت عينه إن سلطة الرئيس هي سبب القتل.
يبدو أنه جرى الإسراع في دفن الضحية قبل أن يمتدَّ الخبر، فكانت الجنازة فقيرةً ومحدودةً. غير أن الخبر انتشر لاحقاً وعبّر بعض أهالي الساحل عن غضبهم في اعتصامٍ نفّذوه على دوار الزراعة، ظهرت فيه إرادةٌ مستقلةٌ نسبياً عن السلطة، ولكنها استقلاليّةٌ لا تكسر دائرة الولاء. الهتافات كانت مطلبيّةً محض وتخصُّ الجريمة فقط. الصراع في البيئة الموالية يتحرك ضمن حدود عدم إسقاط النظام، وهذه الحدود سوف تبقى ما بقي اللون الإسلاميُّ غالباً على ضفة المعارضة، وإن لم يكن بالتنويعة الجهاديّة السائدة اليوم. فالعداء للمعارضة الإسلامية يشكّل أرضيّةً مشتركةً وصلبةً تجمع جمهور الموالاة وتتفوق على الصراعات الداخلية في صفوفهم.
كيف يمكن أن يتصرف النظام حيال جريمته هذه؟ هل يتخذ إجراءاتٍ صارمةً بحقِّ الجاني أم يستخدم وسيلته المعهودة في المناورة وامتصاص النقمة وتمرير الجريمة؟
يتضح من مبادرة بشرى الأسد (شقيقة بشار الأسد) في إرسال ابنها إلى تعزية أهل الضحية، ومن إغداق التضامن “السلطوي” معهم بما في ذلك تكليف محافظ اللاذقية بنقل تعازي الرئيس، أنَّ اتجاه السلوك القادم سيكون إلى لملمة الموضوع وإنزال عقوبة مخففة بالجاني. السيناريو المتوقع هو محاكمةٌ وسجنٌ يعقبه هروبٌ من السجن بعد حين والسفر خارج سوريا، ليلحق بقريبه رفعت الأسد الذي سبق أن هزَّ أركان سلطة الأسد الأب في ثمانينيات القرن الماضي. هكذا تعوّد النظام أن يحلَّ مشاكله السياسيّة/العائليّة.
تفاعل المعارضة الإسلاميّة الجهادية مع الجريمة
منذ البداية رحبت أوساط المعارضة الإسلاميّة الجهادية بالجريمة على مبدأ (فخّار يكسر بعضه)، وأُنشئت صفحة على الفيسبوك بعنوان (تسلم الأيادي، شكراً سليمان هلال الأسد). وإذا كانت هذه المعارضة ترحب بقتل الضابط كيفما كان، فإنها لا ترحب بنشوء حراكٍ بين الموالين يطالب بالعدالة ويوحي بنشوء إرادةٍ شعبيّةٍ مستقلةٍ، ذلك أن مثل هذه الإرادة ستكون مستقلةً ليس فقط عن النظام بل عن المعارضة الإسلاميّة الجهادية أيضاً، بما يهدّد بخلق بؤرة استقطاب جماهيريّة ضدَّ الطرفين الأعداء (بسبب نهم الطرفين للتسلط)/الأخوة (في الإجرام). هذا النمط من التطوّر لا يروق للإسلاميين الجهاديين الذين يستمدّون الفائدة من طبيعة النظام الإجراميّة، تماماً كما يستمدُّ النظام الفائدة من طبيعة هذه المعارضة الإسلاميّة الإجراميّة. وعلى هذا الضوء يمكن أن نقرأ انهمار الصواريخ “المعارضة” على اللاذقية اليوم (13/8/2015)، كنوعٍ من مساهمة هؤلاء الإسلاميين في إعادة من بدأ من الموالين بالاعتراض إلى صفِّ الأسد.
خاتمة
على أيِّ حالٍ، لن يتمكن النظام من تفادي الخسارة جراء جريمته هذه. إن تراخى مع الجاني سيكرس انفكاك الموالين عنه وسيغذّي سعيهم لتشكيل إرادةٍ مستقلّةٍ، وإن تشدّد وأعدم الجاني، كما يطالب القانون والجمهور، فإنه سيضعضع ترابط العائلة، الأمر الذي يمكن أن يترك أثراً مهمّاً على تماسك السلطة نظراً إلى أن أبناء العائلة يمسكون المفاصل الأساسية فيها.
تسقط اليوم سلطة الأسد التقليديّة في وعي الموالين، لم تعد سلطة الأسد للأسد وعائلته بعد أن دفع الموالون الكثير وما زالوا يدفعون ثمن الحفاظ عليها. يدركون أنهم دفعوا ما يخوّلهم النظر في عيون صاحب القرار وتخطّي حاجز الممنوع السابق. صاروا يشعرون أن لهم الحقَّ في قول كلمتهم ولاسيّما حين يبدو أن النظام غارقٌ في سوء التقدير والإدارة وفي الفساد إلى حدود الجريمة.