في الإسلام السياسي والإسلام الحربي في سوريا
يهدف هذا التحقيق إلى إلقاء الضوء على بعض الخيوط التي تنسج اليوم واقع أسلمة الثورة السورية ويسعى إلى استقصاء الجذور التاريخية، الأمنية والثقافية، لهذه الخيوط.
يَجْسر بين مرحلة الثورة السورية وما قبلها تحليل ووقائع نرى أنها ستكون سنداً ودعماً لهذا البحث القائم والمنطلق من سؤالٍ قديمٍ جديد: ” هل المشكلة الإسلامية سياسيّة أم ثقافيّة؟ – سوريا مسرحاً”. !!
الإسلام واحدٌ ومتعدّدٌ, كما تشير سلسلةٌ من الكتب المهمة أشرف على كتّابها الباحث التونسيُّ عبد المجيد الشرفي. الإسلام إسلامات, وكلُّ بلدٍ أو مجتمعٍ تناسبه حالةٌ أو نموذجٌ لا ينسحب بالضرورة على غيره من البلدان. موقعُ الإسلام السياسيّ أو الشعبي بالنسبة للبشر في سوريا مختلفٌ عنه في إندونيسيا وتونس ومصر وبلدان الاتحاد الأوربي والسعودية.
وفي حالاتٍ كثيرةٍ, يبدو لنا أن الإسلام, كَــدينٍ, شبيهٌ بالماء, يأخذ شكلَ الإناء الذي يوضع فيه. بناءً على هذا الافتراض كنا نقول منذ بدء الثورة إنّ سوريا بتركيبتها المجتمعيّة وبالتنوع الطائفي والإثني فيها لن تحكمها راديكاليّةٌ دينيّةٌ بسهولةٍ بعد سقوط الأسد, لكن الإناء اليوم تغيّر, وتعرض الإناء والإسلام الذي يملأ هذا الإناء إلى خضّاتٍ وهزّاتٍ وزلازلَ أمنيّةٍ وعسكريّة جعلت الراديكالية والتحوّل نحوها بداهةً كارثية.
الإسلام الرسميّ في عهد الأسدَين – البوطي نموذجاً –
قد يفيدنا البدء بالتساؤل عن موقع العلمانيّة والإسلام في سوريا البعثيّة, انطلاقاً من الثورة السورية, رغم إعلان هذه الثورة حالة القطيعة مع النظام وطيِّ صفحة سوريا البعثيّة, وربما الأسدية أيضاً.
أي: هل ظواهر الأسلمة التي تزايدت باطّرادٍ كلما تقدم عُمر الثورة السورية, هي حالةٌ دخيلةٌ على مجتمعٍ علمَنهُ البعث؟ وهل علمَن البعث المجتمع والدولة فعلاً؟ أم أن ثمة ما كان مخبوءاً تحت السطح بفعل البعث وقبضته الأمنية وبات حراً من أيّ قيدٍ اليوم؟
سنفرد المساحة الأوسع من هذا البحث لاحقاً, للحديث عن أسلمة الثورة السوريّة وآفاق هذه الأسلمة. ولكن, يبدو لنا أن حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ, العلماني كما يفترض به أن يكون, لم يحمل من العلمانية إلا اسمها. الأدلة على هذه بعد المتابعة والقراءة عن رعاية السلطة للإسلام الرسميّ والشعبيّ والسياسيّ يبدأ من دستور الجمهوريّة العربيّة السوريّة, حيث نصّت المادة الثالثة في الدستور على ما يلي:
1- ” دين رئيس الجمهوريّة الإسلام.
2- الفقه الإسلاميّ مصدرٌ رئيسيّ للتشريع “.
يحدث هذا في بلدٍ ليس كلّ سكانه مسلمين وإن تكن الاغلبيّة منهم كذلك, يحكمه وفق المادّة الثامنة من ذات الدستور, قبل إلغائها, حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ, وهو حزبٌ ” علمانيٌّ ” كما يُفترض.
تحت موادّ الدستور هذه, التي تتوازى فيها قسريـّـةُ إسلام رئيس الدولة, وأسديتـِـه, مع قسريّة حكم حزب البعث لسوريا, يشهد من هو على اطلاعٍ بتفاصيل الإسلام الرسميّ وعلاقته بالسلطة البعثيّة ورأس النظام, مظاهرَ وأحداثاً ومواقفَ.. لا تعطي انطباعاً إلا أن ثمة لعباً على الوتر الدينيّ والطائفيّ يقوم به نظام البعث ” العلمانيّ “, ورئيس الدولة, وهو أيضاً الأمين القطريّ لهذا الحزب.
في عام 2001, وفي الوقت الذي كانت تغلق فيه منتديات ربيع دمشق ويُعتقل المثقفون والكتّاب السوريّون, “وافقت السلطات السوريّة على الترخيص لمنتدى – يهدف إلى نشر فكرٍ إسلاميٍّ معتدلٍ – بعد شهرين من تقديم الطلب وفقاً للدكتور محمد حبش مدير مركز الدراسات الإسلاميّة والنائب في البرلمان ورجل الدين المعتدل “. [ref] دراسة طويلة لرزان زيتونة في موقع الأوان، سوريا وإسلامها الرسمي في زمن “الصحوة ” . [/ref]
هذا غيضٌ من فيض يشير إلى تسهيلات النظام السوريّ للإسلام الرسميّ أو ” المعتدل ” القريب من السلطة, وهي السلطة التي كانت تمسك بكلّ مفاصل الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة في البلد, وتعيّن خطباء الجوامع ورجال الدين وتعزلهم بقرارٍ “أمنيٍّ ” .
خُطَب الجمعة بحدِّ ذاتها هي بابٌ للحديث عن الكثير من الدلائل التي تشير إلى الغزل الحميم بين البعث والإسلام الرسميّ السوريّ المتواطئ معه, أو المحابي له. فمثلاً, قام الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في خطبة الجمعة بتاريخ 4-11-2005 بشنِّ هجومٍ عنيفٍ ضدَّ ناشطات وناشطي حقوق المرأة واصفاً إيّاهم بـ”العمالة القذرة” و “الخونة” و”الأقزام” و”العبيد لهؤلاء الذين يريدون اجتثاث الحضارة الإسلاميّة من جذورها”.
الناشطات ” الخائنات ” المعنيات بتخوين البوطي, وهو الرجل المقرب جداً من “علمانيّة ” بشار الأسد ووالده حافظ, هنّ اللواتي أجرين استطلاعاً للرأي الشعبيّ حول بعض موادّ قانون الأحوال الشخصيّة المتعلقة بالمرأة. وزيرة الشؤون الاجتماعيّة والعمل أمرت الجمعية لاحقاً بوقف الاستبيان, تحت ضغط رجال الدين القريبين من السلطة وخطباء الجوامع.
البوطي نفسه, أشار في كلمة ألقاها في أربعين الرئيس حافظ الأسد إلى “قدراتٍ بشريّةٍ محدودة للرئيس الراحل، ولكن قدرة إضافية تتنزل من عند الله كانت تدعم قدرته البشريّة” . وقد رفض البوطي رفضاً مطلقاً تلك “الديمقراطية المطبوخة المصطنعة”، البديلة لـــ «بيعةٍ صادقةٍ صافيةٍ من الشوائب من هذا الشعب للرئيس بشار الأسد “. [ref] الدراسة السابقة [/ref]
كان يحدث هذا كلّه في مجتمعٍ يُمنع فيه أيّ حراكٍ سياسيٍّ للدين أو للّا دين علاقة فيه, في الوقت الذي تتاح للإسلام الرسميّ مجالات و” شطحات ” برعاية السلطة البعثية, لا مانع من تبديل منهجها وفتاواها وفقاً لما تتطلبه السياسة السوريّة الخارجيّة قبل الداخليّة.
الإخوان المسلمون
بعد خروج الشيخ مصطفى السباعي من السجن عام 1943, قام بتوحيد التيار الديني في إطار ” جماعة الإخوان المسلمين “, وانتخب مراقباً عامّاً لها. وبقي التنظيم ذا شكلٍ سياسيٍّ يشارك في الحياة البرلمانيّة والسياسيّة السوريّة.
لم يبقَ الإخوان المسلمون على عملهم السياسيّ السابق لفترة حكم البعث وآل الأسد, وإنما انتقلوا إلى تكفير “نظام الحكم العلَويّ “, معتبرين أن ” ادّعاء النظام للعلمنة جريمةٌ تعكس هرطقة العلويّين وكفرهم ” [ref] تاريخ سوريا المعاصر, كمال ديب, دار النهار, ص 541. [/ref].
وبدأت الصدامات التي بات معها الصراع واضحاً في سوريا بين الحكم البعثيّ من جهة ومشروع الحكم الإسلاميّ لسوريا من جهةٍ ثانيةٍ, وكان الصراع على مراحل, تضمّن محاولة اغتيال حافظ الأسد على يد الإخوان في 26 حزيران 1980, وسلسلة من التفجيرات والاغتيالات التي استهدفت شخصيات نافذة في الحزب والنظام. وبعدها مجزرة تدمر الشهيرة, ومعركة حماة التي كانت معركة الحسم مع الإخوان, والتي ساد واستتبَّ فيها الأمر للنظام السوريّ.. ليس عبر خلوِّ الساحة من الإخوان فقط, وإنما, ولاحقاً, من كل الأحزاب والقوى السياسيّة السوريّة الأخرى.
هكذا انتهت حقبة الإخوان المسلمين في سوريا وهرب وتشتّت بعضهم في بلدان العالم, ومن بقي منهم في سوريا إما سُجن أو أعدم, وبدأت الحركة ترسل إشاراتٍ وإيحاءاتٍ للنظام السوريّ بقبولها الديمقراطية والعمل السياسيّ ونبذها العنف المسلح. هذا تجلّى وبات واضحاً بشكلٍ أكبر بعد ربيع دمشق في عهد بشار الأسد, ثم تحالفها مع عبد الحليم خدام عام 2006 في إطار ما سمّي “جبهة الخلاص الوطنيّ”.
واليوم, يستحق الإخوان المسلمون في سوريا أن نقف عند خطابهم السياسيّ, وتحديداً بعد الثورة السوريّة… ولنا أمثلة على ذلك:
المراقب العام السابق للجماعة, علي صدر الدين البيانوني, قد مَنع في أحد لقاءات المعارضة إصدار نصٍّ تقول مادته الأولى:
” لن تكون مواقفنا وآراؤنا نقاط فصل ومتاريس تفصل بيننا, ولا بد أن نجعل منها نقاط تواصلٍ وتفاعلٍ وتكاملٍ بيننا “.
مادّة ثانية من هذا النص تعِد ” بالمحافظة على سِلمية الثورة والعمل على إخضاع السلاح لمواقفَ سياسيّةٍ موحدة بدل إخضاع مصير الحراك للسلاح “.
أما المادّة الأخيرة من هذا النص فتقول:
” عدم انفراد أحدٍ من المعارضة بحوارٍ أو تفاوضٍ مع النظام “.
البيانوني رفض كلّ هذا الكلام بحجة وجود ” ميثاق المجلس الوطنيّ السوريّ ” . [ref] جريدة السفير , ميشيل كيلو, 28 تموز 2012. [/ref]
نميل إلى الرأي القائل بوجوب تقديم تيارات الإسلام السياسيّ مراجعةً عميقةً لتجربتها ومرجعيتها النصيّة والفقهيّة, وتقديم طرحٍ جدّيٍّ لمسألة الحريات والديمقراطيّة في المجتمعات العربيّة ومنها المجتمع السوريّ. حركة النهضة التونسيّة طرحت الديمقراطيّة السياسيّة شعاراً لها بعد رحيل زين العابدين بن علي عن كرسي الرئاسة, ووصلت إلى الحكم في تونس بالآليات الديمقراطيّة. ذلك لم يمنع موقفاً حكومياً يغطي هجوم بعض السلفيين على بعض المعارض الفنيّة ولوحات الفنون التشكيليّة وتحطيمها, لدرجة أن الأمر وصل بالرئيس المنتخب, المنصف المرزوقي, إلى مساواة الفنانين الذين أبدعوا تلك اللوحات بمن حطموها على أساس “ضرورة عدم المساس بقناعات الآخرين “.
الإخوان المسلمون السوريون قدّموا منذ ربيع دمشق عام 2001 مواقف تتعلق برؤيتهم لدولة القانون والديمقراطية والمواطنة عبر ” ميثاق الشرف “, وأكملوا ذلك عبر تحالفهم مع عبد الحليم خدام في إطار ما سمّي بـــ ” جبهة الخلاص الوطني”, وصولاً إلى التبرؤ غير المباشر وغير المعلن من ” مواثيق شرفهم ” نفسها وتعليق معارضتهم لنظام بشار الأسد, بحجة دعم حماس والوقوف مع الفلسطينيّين في حرب غزة أوائل عام 2009.
واستطراداً, يصعب الحكم على ورقةٍ مقدَّمةٍ عبر تحالفٍ سياسيٍّ ذي علاقة بمصالحَ آنيةٍ محضة على أنها تغيّرٌ عميق للإخوان المسلمين السوريين, رغم وجود مصطلحات وكلام يتعلق بحرية الاعتقاد والرأي والتعبير في ورقة جبهة الخلاص التي كانت بسيطةً ومسطحة إذا ما قورنت بميثاق الشرف الوطنيّ عام 2001.
وعلى سبيل المثال لا الحصر أيضاً, وفي الجانب الفكريّ لديهم, وفي عام 2007, كتب ياسين الحاج صالح مقالاً عن محمد حجازي, ذلك الشاب المصريّ الذي غيّر دينه إلى المسيحية, فكان أن أهدرت بعض الجهات الإسلاميّة في مصر دمه, بمن فيها الإخوان المسلمون في مصر, وتضامن معهم في موقفهم الإلغائي هذا, الإخوان المسلمون السوريون, وإن كأفرادٍ وليس كجماعة. ثارت نقاشاتٌ حادةٌ وعنيفةٌ بين الإسلاميّين والعلمانيّين السوريّين بخصوص حقه في تغيير دينه. العلمانيون وقفوا على أرضية المنطق والعقل ونزعات الأنسنة في مساجلتهم الإسلاميين ومنهم الإخوان المسلمون, أي انطلاقاً من مواثيق حقوق الإنسان والاحتكام إلى قيم الحداثة والحريات العامّة التي يفترض أن تنسخ كلّ ما كان يخالف حرية الإنسان وحقه في الاعتقاد بمعتقدٍ يراه طريقاً للانسجام مع الذات, ومنها حديث ” من بدل دينه فاقتلوه “, وهو حديثٌ مشكوكٌ في صحته أصلاً ومشكوكٌ في نسبه إلى النبي محمد. كان أول من رفع الساطور الإسلاميّ مقنّعاً بقلمٍ ونصٍّ هو الطاهر إبراهيم, أحد وجوه الإخوان المسلمين في المنفى والمسؤول في المكتب الإعلامي لديهم, والذي أنكر على ياسين الحاج صالح دفاعه عن حالة محمد حجازي ومساواة حق تغيير الدين مع حق عدم الاعتقاد بأيّ دينٍ. مردُّ الموقف الإخوانيّ هذا استند إلى المرجعيّة الفقهية القروسطوية للطاهر إبراهيم, وهي لا تقيم اعتباراً لمواثيق حقوق الإنسان ومنها الإعلان العالميّ الصادر عام 1948. وهنا, يتبدى ذلك الشقاق واللا انسجام بين الموقف السياسي والمرجعية الفقهية, وهو مايزال يكمن في ” الفُصام النَّــكِد ” بحسب تعبير محمد أركون, أي بعدم الانسجام وعدم التواؤم بين خطابٍ سياسيٍّ يوميّ يتعلق بديمقراطية سورية مستقبلاَ, وخطابٍ فقهيٍّ يُعمل مبضعه في أيّ نصٍّ أو فكرةٍ تقول بضرورة وجود تيارٍ فكريٍّ وسياسيٍّ غير مطابقٍ لرؤية الإخوان والإسلام السياسيّ عموماً للحياة والبشر, ولتنوع منابِتهم وأفكارهم ومرجعيّاتهم السماوية أو الأرضية في ذلك. [ref] أساطير الآخرين, ياسين الحاج صالح, دار الساقي, ص 229 [/ref].
قد يحتاج النقاش في العمق مع تيارات الإسلام السياسيّ في العالم العربيّ إلى مجلداتٍ, والإخوان المسلمون السوريّون إحدى أكثر تلك التيارات, على ما نرى وعلى ما نحاول أن ندرج من أمثلةٍ في هذه الدراسة, فصاماً وافتقاداً للمصالحة مع الذات عبر ثنائية ما هو مُضمَرٌ وما هو مُعلَن. ولاسيّما في ظلِّ غياب نقدٍ عميقٍ للفكر الإسلاميّ التقليديّ والعمل على تشكيل مرجعيّةٍ إسلاميّةٍ موحَّدة, متفقٍ عليها من كلّ مرجعيات ورموز الإسلام الرسميّ والشعبيّ, متلازمة مع ضرورة تعرّض الدين الإسلاميّ لعملية إصلاحٍ عميقةٍ تبدأ بأرخَنة النصّ الإلهيّ ونزع الأسطَرة عن البشر المؤلَّهين لدى بعض الطوائف, ” وهو ما لن يُقبِل عليه الإسلام تلقائيّاً”, وصولاً إلى أنسَنة الإخوان المسلمين وكلّ التيارات الدينية التي ما تزال ترتكز إلى لحظةٍ عمرها 1400 عام, واعتبارهم بشراً وليسوا وكلاءَ لله على الأرض, وقوّامين على المسلمين والمسلمات وأبناء الأديان والمدارس الفلسفيّة والطرق الصوفيّة والتيارات الفكريّة والسياسيّة الأخرى.
تندر الثقة في الأوساط الشعبيّة والثقافيّة في سوريا, بالإخوان المسلمين وخطابهم وانسجامهم مع مبادئ وشكل الدولة المدنيّة التي يتحدثون عنها.
ثورة سورية أم تمرُّد سلفيّين !!
أ- رواية النظام ورواية المعارضة:
نميل إلى تقسيم الثورة السوريّة منذ انطلاقتها حتى اليوم إلى ثلاثة أطوار:
أولها طور الانتفاضة السلميّة الآفلة مع ردِّ الفعل العنفي للنظام ضدها. ثانيها طور الاتجاه نحو العسكرة والتنظيمات المسلّحة تحت شعار الدفاع عن النفس وحماية المتظاهرين. أما الطور الثالث فهو ما بدأ مع إعلان تشكيلاتٍ عسكريّةٍ مقاتلةٍ بمشروع دينيٍّ تكفيريّ.
ثمة تشابكٌ لا يخفى في العلاقة بين الطورين الثاني والثالث للثورة السوريّة, يقدّمه بعضهم عن حسن أو سوء نية، مفاده إسباغ صبغةٍ دينيّةٍ على هذه الثورة لم يكن قادراً على تقديم براهين عليها أيام سلميّتها، مقارنةً بالحال اليوم، مع تزاوج المكوّن العسكريّ مع المكوّن الدينيّ.
قطعاً, لم يكن ثمة حضورٌ للنفوذ السلفيّ عند انطلاق الثورة السورية من درعا, رغم أن الرواية الرسمية للنظام لم تخلُ للحظةٍ من ذكر السلفيّة وإماراتها, ومن نسب كل الحراك ” المطلبي في بدايته ” إلى ” مؤامرة دينيّة أو طائفيّة ” تستهدف ” الوطن “.
والحال, أنّ رواية النظام لم تتوقف عن هذه السرديّة ولو للحظةٍ, في حين كان خطاب المعارضة يركز على وطنيّة الثورة السوريّة ولا طائفيتها. تغير الواقع السوريّ ” وتسَلفَنت ” الثورة لدرجةٍ كبيرةٍ. رواية النظام بقيت كما هي دون أن يعني ذلك أن روايته صحيحة, أو أنه لم يكن الدافع الأساسيّ نحو “التَسلفُن “, أما رواية المعارضة فبقيت للأسف, وكأن الثورة لم تزل في آذار ونيسان وأيار 2011.
ب- السلفيّة السوريّة كما برزت في الثورة:
لم تكن الصبغة الدينيّة – السلفية لازمةًً للثورة حتى بعد أن تعسكرت. المقدم حسين هرموش الذي انشقّ في 9 حزيران 2011 قال إنه انشقّ ” لحماية المتظاهرين غير المسلحين الذين يطالبون بالحرية والديمقراطية”, وتابع الهرموش في الفيديو الذي بُثّ على you tube قائلاً , في بيان انشقاقه ” لا للطائفية, الشعب السوري واحد “. [ref] راجع فيديو انشقاق المقدم حسين الهرموش. [/ref]
كلام الهرموش اعتبر مبدءاً لكلّ المنشقين آنئذٍ ولفترةٍ مديدةٍ لاحقة, وحتى بين بعض الناشطين السلميّين.
وفي الوقت الذي كانت تتلاشى فيه احتمالات حلٍّ سياسيٍّ أو حسمٍ عسكريٍّ لصالح المعارضة, أو تدخلٍ دوليٍّ فاعلٍ ضد النظام السوريّ, بدأت الكتائب المتشددة دينيّاً تظهر على الساحة السوريّة وتحتل الصدارة على الأرض, وعلى وسائل الإعلام التي عوّمت هذا الشكل من العسكرة وعملت على استجلاب التعاطف معه.
في الحقيقة, فإن أولى دعوات الجهاد ضدّ النظام السوريِّ بدأت مبكراً, حتى قبل سلسلة الانشقاقات, إلا أنها كانت خجلةً. حدث ذلك في نيسان 2011, بعد ما عرف بمجزرة الساعة في حمص. بعد المجزرة ارتفع صوت المتظاهرين بالهتاف ” الشعب يريد إعلان الجهاد “.
تمرحُل الثورة السورية وفق المراحل الثلاثة التي أشرنا إليها سابقاً, جعل من البيئة السوريّة, حاضنةً وأرضاً خصبةً للجهاديات, رغم ما عرف عن الإسلام السوريّ من اعتدالٍ وتجاور, كإسلام سنيّ, مع باقي مكوّنات وطوائف وأديان المجتمع السوريّ الأخرى.
لا يستقر الإسلام الشعبيّ والمؤمنون به إيماناً بسيطاً لاعنفيّاً على حالٍ ثابتةٍ، إن تعرضت بيئة المؤمنين هؤلاء إلى خضّاتٍ وهزاتٍ سياسيّة واجتماعيّة وأمنيّة كبرى. الإسلام السنّيّ الأكثري في سوريا كان المكوّن الأساسي للثورة, بحكم الأغلبيّة العدديّة لسنّة البلاد, من دون أن يكون المكوّن الوحيد.
غير أنّ أهلية المجتمع السوريّ وإسلامه السنّيّ المعتدل كانا دوماً مرشحين للتشوه، بحكم الانعطاف الكبير في نهج الثورة الذي قاده النظام بنجاحٍ، وأرساه على ضفة العنف واحتمالات الاقتتال الأهليّ والاحترابات الطائفيّة مستقبلاً. هناك عاملان رئيسان ساهما في جعل الأكثريّة السنيّة السوريّة هي الأكثر عرضةً لنيران النظام، مع تفاوت مستوى تلك النيران بين الطلقة والبرميل المتفجّر, والسلاح الكيمياويّ لاحقاً:
الأول: حجم التهميش المتعمّد من النظام، الذي كان يلحق بالريف السوريّ مقارنةً بمراكز المدن الكبرى ورموزها من قوىً وشخصياتٍ اقتصاديّةٍ وسياسيّةٍ اندرجت بفاعليةٍ في تكوين المشهد السوريّ قبل الثورة، والذي كان يسمّى حزام الفقر. هذا جعل الريف السوريّ يحوز المشاركة الأوسع في الثورة السورية بعد اندلاعها في آذار 2011, ويقدّم صورةً متفاوتة لثوراتٍ متعددةٍ في سوريا تتعلق بخصوصية كلّ منطقةٍ من المناطق السوريّة الثائرة. هي مناطق متعدّدةٌ توحِّد الثوارَ فيها وطنيّتان: هويتهم “سوريّون بالكامل”، وهدفهم “إسقاط النظام”.
يتبدّى العامل الثاني في محاولة النظام تحييد الأقليّات الطائفيّة والدينيّة عن الثورة عبر بثِّ المخاوف في صفوفها من شبح التطرّف المحتمل، والمعاملة الأقل عنفاً لتلك الأقليّات التي ثار جزءٌ منها وانخرط في يوميّات الثورة، مقارنة بعنفه تجاه الأكثرية. هذا كان من شأنه أن يجعل البيئة السنيّة السورية المعارضة للنظام والمطالبة بالتغيير.. هي الأكثر استعداداً من غيرها لحمل السلاح والانخراط في المواجهة المسلّحة، قياساً بسوريّين من غير السنّة لم يلحق بهم تدميرٌ وقتل وموت كالذي لحق بـ”سنّة” المناطق السورية, والريفيّة منها تحديداً.
ج- الثورة والفرز الطائفي بين السوريّين
في البداية لم يشكل الحضور السلفيُّ الشحيح, تحدياً لرواية المعارضة عن وطنية الثورة ولا تأكيداً لرواية النظام عن التمرّد السلفي ضده في سوريا ” وضد الوطن “. لكن النفوذ السلفيّ أخذ يزداد فعليّاً ويحجز مقعداً له في سوريا المستقبل, بغضِّ النظر عن إمكانية استمراره من عدمها. ذلك أنه, وخارج إطار المجموعات السلفيّة المتواطئة مع النظام, والمتواطئ معها النظام ” كما سنرى بعد قليل “… فإنه ومع اتجاه الثورة والثوار في المناطق المنكوبة نحو العسكرة، كان ثمّة نفسٌ دينيٌّ غيبيٌّ يعلو صوته رويداً رويداً مترافقاً مع العمليّات العسكريّة المحدودة لـ”الجيش الحر” أو المسلحين المدنيّين آنئذٍ. إن صرخات من قبيل “الله أكبر”، مع كلِّ عمليةٍ عسكريّةٍ ضدَّ القوات النظامية، تبدو طبيعيّةً في بيئةٍ مسلمة، تزامناً مع ارتفاع هتافات تمجيد الخالق والاستغاثة به وفق هتاف ردّده السوريّون في تظاهراتهم “يا الله ما إلنا غيرك يا الله”، كعلامةٍ على فقدانهم أي سندٍ سياسيٍّ وعسكريّ وإغاثيّ يعوَّل عليه إلا ربّهم. كما أتت تلك الصرخات, في جزءٍ كبيرٍ من دوافعها, رداً على مناخات السجود لصور بشار الأسد وتماثيل أبيه وشعارات تأليه الفرد وعبادته في خندق الولاء للنظام ومريديه والمدافعين عنه, إلى حدِّ قتل الآخر السوري الشريك في الوطن فداءً للرئيس. عبادة الرئيس وجهاً لوجه مع عبادة الله، هي علامةٌ على بروز حالٍ طائفيّةٍ صداميّة بين الطرفين، بلغت أبشع أشكالها مع بروز نتائج اعتماد جيشه ومخابراته أساساً, وتاريخياً, على الطائفة العلوية التي ينتمي لها رأس النظام. هكذا, ومع حجم التجييش الهائل لمتطوعين في الجيش والمخابرات كانت لهم الأولويّة في حيازة مواقعهم قياساً بالسوريّين من غير الطائفة العلويّة, والاعتماد على شبيحة تحت مسمّى ” اللجان الشعبية ” في مناطق وأحياء علوية أساساً منذ بدء الثورة, للقيام بأبشع المجازر تجاه السوريّين, يقع المجتمع السوري الثائر ضحية انجراره للمواجهة مع الطائفة العلوية بالتزامن مع مجابهته الواسعة للنظام. إذاً, صارت المواجهة الميدانيّة تلوح بين: ثورةٍ ذات أغلبيّةٍ سنيّة يواجهها نظامٌ ذو أغلبيّةٍ علويّة.
بعد تلك التغيّرات الكبرى في سوريا وفي مسار ثورتها, بدا التحوّلُ واضحاً نحو الجهاد ونحو الانجدال مع تنظيمات وأفكار الجهاد العالمي ممثلاً بتنظيم القاعدة. في تموز 2012 أطلق العميد مصطفى الشيخ, رئيس المجلس العسكري الأعلى للجيش الحر تصريحاً قائلاً:
” إنهم يكبّرون ويكبّرون. إنهم يحصلون على مواقعَ أقوى داخل البلاد بمرور كلِّ يوم. الوضع خطيرٌ جداً “. [ref] تقرير crisisgroup مجموعة الأزمات الدولية / سوريا – ص 4 [/ref]
وفي أيار 2012 أيضاً, قال قائد المجلس العسكري الثوري في حمص:
” المزاج السوري يتحول تدريجيّاً من معتدلٍ إلى راديكاليّ. في حين يفكر الأمريكيّون ويخططون, فإن الإسلاميّين المتطرفين يقاتلون كلَّ يوم للحصول على دعم الشعب. إلى أن تصبح الولايات المتحدة مستعدةً لاتخاذ قرار , فإن كل سوريا ستكون قد أصبحت إسلامية “. [ref] تقرير crisisgroup مجموعة الأزمات الدولية / سوريا – ص 9 [/ref]
مع ذلك يبقى التسلفُن مظهراً لا يعبر كل الأحيان عن التوجه والقناعة الشخصيّة لمن يحمل مظاهره المعروفة. مثلاً, الملازم أول عبد الرزاق طلاس الذي شكل وقاد كتيبة الفاروق, بقي ملتزماً بالخط الوطنيّ والخطاب اللاطائفيّ تجاه كلِّ السوريّين رغم أنه أطال لحيته وحفّ شاربيه ” وفقاً للطقوس السلفية المعروفة “, وحذرت كتيبته ” كتيبة الفاروق ” تنظيم القاعدة من التدخل في الشؤون السورية, وأعلنت التزامها بالاتفاقيات الدولية.
جبهة النصرة لأهل الشام
أول ظهورٍ رسميٍّ للجبهة كان مع ظهور مقطع فيديو على YouTube في 25 كانون الثاني 2012 [ref] راجع فيديو الإعلان عن جبة النصرة لأهل الشام [/ref], لمجموعةٍ سلفيّةٍ راديكاليّة قالت بالجهاد ضدَّ النظام. وجاء على لسان قائد جبهة النصرة لأهل الشام, أبي محمد الجولاني, في ذات المقطع, إن النجاح الحقيقي ” لا يتمثل في إسقاط النظام السوري فقط, وإنما عند استبدال كلِّ النظام بدولةٍ إسلاميّة ..”.
هنا, بدأ القلقُ الضمنيّ, غير المعلن, يخيّم على سياسيّي المعارضة وناشطي الثورة وإعلاميّيها, وصارت رواية النظام التي كانت أبعد عن الحقيقة أمراً واقعاً اليوم, وزاد من تعقّد المسألة.. تبنّي جبهة النصرة لتفجير 6 كانون الثاني 2012 في دمشق بحيّ الميدان, وتفجير 10 شباط في حلب. قبل الإعلان عن هذا التبنّي, كان الخطاب السياسيُّ للمعارضة السوريّة يُحمِّل النظام السوري مسؤولية التفجيرين, أما وقد تبنّتهما مجموعةٌ جهاديّةٌ, فهذا عزّز, وفقاً للخطاب المعارض ذاته, الإيمان بالتقارب بين النظام السوريّ وهذه المجموعات التكفيريّة.
فمثلاً, قال السفير السوريُّ المنشق في العراق, إن ” هذه التفجيرات ناشئةٌ عن تعاونٍ قديمٍ بين المخابرات السوريّة وتنظيم القاعدة في العراق ” [ref] تقرير crisisgroup مجموعة الأزمات الدولية / سوريا – ص 11 [/ref]. وبرزت رواياتٌ سلفيّةٌ أخرى أيضاً تلتقي في خطابها المعارض للنظام مع خطاب الثورة, تشكك بالنصرة وتؤكد على علاقتها بالنظام السوري, من مثل ما صرّح به أبو بصير الطرطوسي, الذي ” تحدّى الجبهة وزعيمها بالكشف عن هويّته, وبأنه مدعومٌ من قبل سلفيّين سوريّين معروفين” [ref] تقرير crisisgroup مجموعة الأزمات الدولية / سوريا – ص 11 [/ref].
تغير الأمر لاحقاً بالنسبة لجبهة النصرة, من حيث ممارساتها على الأرض وانسجامها النسبيّ مع خطِّ الجيش الحرّ, فمعركة معلولا مؤخراً كانت مجالاً للتنسيق بين الحرِّ والنصرة لناحية الدخول وضرب الحواجز والانسحاب من المدينة. ذلك أن جبهة النصرة دخلت البلدة بعد فرار عددٍ من عناصر النظام الذين كانوا يتمركزون على الحاجزين إلى داخلها. وبناءً على ذلك اتُّخِذ قرارٌ من أمير النصرة في القلمون والملقب بــ ” أبي مالك “, بملاحقة العناصر ودخلت جبهة النصرة إلى معلولا. بعدها اتُّخذ قرارٌ من الجيش الحرّ وجبهة النصرة بالانسحاب الفوريّ من المدينة,على ما أفادنا الناشط والمعارض السياسيّ البارز فائق المير ” المعتقل اليوم في سجون النظام ” , والذي كان على اتصالٍ بالكتائب المقاتلة في هذه العملية. فائق المير قال يومها إنه ” لم يتوقع هذه الموافقة السريعة من جبهة النصرة على الانسحاب أسوة بالجيش الحر “. [ref] راجع مقالة النموذج الضروري في الأولى والتخبط في الثانية ، لكاتب هذه السطور في جريدة الحياة بخصوص معركة معلولا, الحياة اللندنية. [/ref].
لكن, ورغم قتالها هنا مع بعض كتائب الجيش الحر, وقتالها له هناك وهجومها على مناطقَ مدنيّةٍ ونقاطٍ غير عسكريّة. بشكل عام, ومع اتضاح ملامحها الإرهابيّة وفكرها الجهاديّ وبحثها عن إمارةٍ إسلاميّة, لم يكن ثمة إقبالٌ على الدفاع عن النصرة سوى من حالاتٍ شعبويّة من المعارضين على الأرض, ومن معارضين سياسيّين اعتبروها ” مكوّناً أصيلاً من مكوّنات الثورة “, والتعبير لجورج صبرة. وإلى ذلك, انحسر نجم النصرة نسبيّاً بعد ظهور المكوّن القاعدي الثاني وهو الدولة الإسلاميّة في العراق والشام – داعش -.
الدولة الإسلاميّة في العراق والشام – داعش –
تشكلت داعش كامتدادٍ لدولة الإسلام في العراق التي كان قد أسّسها أبو مصعب الزرقاوي, وتشكلت جبهة النصرة كتفاهمٍ بين أبي بكر البغدادي وأبي محمد الجولاني, وعلى أساس قيام النصرة لاحقاً بمبايعة الدولة الإسلاميّة في العراق والشام. وتتواتر أنباءٌ للبغدادي بأن الجولاني ينوي الاستقرار بالقرار والتنظيم عن المرجعيّة العراقيّة القاعديّة للتنظيم, فما كان منه إلا أن أعلن منفرداً ضمَّ الجبهة له, وهو ما رفضه الجولاني لاحقاً وحتى اليوم.
النظام أسّس جبهة النصرة في سجن صيدنايا – شهادة ماهر إسبر ودياب سرية
تتحدث رواياتٌ كثيرةٌ عن ذلك التنسيق بين جبهة النصرة أو داعش من جهةٍ, وبين النظام السوريِّ من جهة ثانية, وينسب المعارضون غالباً وجود هذين التنظيمين في سوريا إلى النظام السوريّ باعتباره هو من أسّس, مباشرة, كلاً من النصرة وداعش. إلى ذلك, ومع تحوّل التربة السورية إلى تربةٍ خصبةٍ للجهاديات المحليّة والعالميّة في آنٍ معاً, فإن تفاصيلَ مهمّةً يمكن أن يحظَ بها الباحث في هذا الموضوع الشائك من ناشطين ومعتقلين سياسيّين سابقين, وتحديداً في سجن صيدنايا حيث كانت تطبخ على نارٍ هادئة, كما سيتبيّن لنا بعد قليل, تلك العلاقة الغزليّة الحميميّة بين الإسلاميّين – القاعديّين أو السلفيّين, وبين النظام السوريّ وشُعب استخباراته.
ماهر إسبر ودياب سرية, ناشطان سوريّان، كانا ضمن مجموعةٍ شبابيّةٍ علمانيّةٍ تطالب بالدولة المدنيّة والتغيير الديمقراطيّ في سوريا, واعتقلت هذه المجموعة في عام 2006, وأُفرج عن آخر معتقليها عام 2011.
خمسُ سنواتٍ كانت حافلةً في سجن صيدنايا بالأحداث والدلالات البالغة, التي قد تساهم كثيراً في فهم المشهد السوريّ الجهاديّ اليوم في جزءٍ كبيرٍ منه.
عن بعض وجوه الجهاد المحليِّ والعالميّ الذين كانوا معتقلين معه في سجن صيدنايا تلك السنوات, وهي وجوهٌ صارت ذات حضورٍ كبيرٍ ومركزيٍّ على الساحة السوريّة اليوم, تصبغ الواقع على الأرض بخطابها ومشاريعها الباحثة عن خلافةٍ إسلاميّةٍ بدعمٍ استخباراتيٍّ عالي المستوى,. يتحدث لنا ماهر ودياب عن هذا الموضوع. يقول إسبر:
• الشخص الأول من تلك الوجوه هو نديم بالوش, وهو المتهم بالتورّط بتفجير الكنيس اليهودي في تركيا عام 2003, وكان على علاقةٍ مباشرةٍ مع من قام بالتفجيرات واسمه لؤي السقا. اعتقل السقا في تركيا واعتقل نديم بالوش في سوريا وحكم عليه بالسجن لمدة عشر سنوات, واعتقل معه في الدعوى نفسها ثلاثة أشخاصٍ هم: وسيم عطور وحسام حليوة وعبد الرؤوف سينو.
وكانت علاقته علنيّةً أثناء وجوده في سجن صيدنايا مع آصف شوكت, مدير شعبة المخابرات العسكريّة آنئذٍ, وكان الاتصال بينهما يقوم على التخطيط لتحقيق اخترق أمني في إحدى دول الجوار، شبيهٍ بما قام به شاكر العبسي في لبنان عام 2006 في مخيم نهر البارد. واستمرّت العلاقة القوية التي تربطه بشوكت حتى أثناء الاستعصاء والتمرّد الذي قام به السجناء في المعتقل ضدَّ إدارة السجن.
وأثناء التسليم والاستلام الذي حصل بعد نهاية الاستعصاء, كان بالوش أول من قام بتسليم نفسه بعد أن كانت فتاواه التي تقضي بقتل عسكر النظام في السجن قد مورست على نطاقٍ واسعٍ أثناء الاستعصاء. وحصلت بعد ذلك سلسلةُ لقاءاتٍ بينه وبين آصف شوكت, وحصل على امتيازاتٍ في السجن واستثناءٍ في المعاملة الجيدة, وكان يسوّق أمام السجناء بعد تلك اللقاءات أن ” اللواء شوكت سيدعم الجهاد وهو شخصٌ إيجابيٌّ جداً “.
خرج بالوش عام 2010 من السجن بقرارٍ من آصف شوكت شخصيّاً, قبل أن تنتهي مدة محكوميّته – عشر سنواتٍ – وتزوج من زوجة أحد الشبان الذين قتلوا في الاستعصاء المذكور آنفاً, وكان متزوجاً قبلها من زوجة أحد المقاتلين الذين قاتل معهم في العراق سابقاً.
أثناء الثورة, قام نديم بالوش بتشكيل كتيبةٍ عسكريّةٍ في اللاذقية حملت اسم ” كتيبة الريح الصرصر “, ويبدو هذا الاسم ذا علاقةٍ وثيقةٍ بتصريحه لاحقاً بأنه يمتلك أسلحةً كيمياويّة, وتزامن هذا التصريح مع تصريح للنظام السوري بأن ” مجموعةً إرهابيّةً مسلّحة سيطرت على أسلحة من أحد المواقع العسكريّة التابعة للجيش النظامي “.
قام نديم بالوش بعمليةٍ كانت سابقةً كبرى في تلك الفترة, وبداية لعمليّاتٍ مماثلةٍ لاحقاً من قبل متشدّدين دينيّين وجهاديّين, حيث قام بخطف أحد أهمِّ ضباط الجيش الحرّ المنشقين في الساحل السوري, وهو النقيب رياض الأحمد, وأشرف شخصيّاً على تعذيبه حتى الموت. أنكر البالوش بدايةً علاقته بعملية الخطف هذه, قبل أن يتدخل الجيش الحرّ والمخابرات التركية التي أبرزت صورة من قاموا باختطاف الأحمد, وهما نديم بالوش وياسر ريس البنا. وكانا يطلبان مليون يورو فديةً للأحمد مقابل إطلاق سراحه.
اعتقل نديم بالوش على أثر ذلك من قبل الجيش الحرّ, وتشكلت لمحاكمته محكمة من سبعة أشخاص, بسبب أهمية الحادثة, وانتهت المحكمة باعترافه بخطف وقتل النقيب الأحمد. بعدها مباشرة, تدخلت جبهة النصرة على خطّ القضية بحجة ضرورة محاسبته والتحقيق معه على خلفية ” خيانته” لرفاقه في صيدنايا. واختفى أثر البالوش بعد أن صار تحت أيدي جبهة النصرة, وتتواتر معلوماتٌ عنه اليوم أنه يقاتل في صفوف الدولة الإسلامية في العراق والشام – داعش – برفقة إبراهيم الضاهر ” أبي حذيفة “,
• إبراهيم الضاهر: إبراهيم الضاهر, والكلام هنا أيضاً لماهر إسبر, جهاديٌّ سوريٌّ حكم عليه بالإعدام في سجن صيدنايا, بتهمة قتل عساكر النظام في السجن, وكان أميراً للأنبار في العراق, وأميراً مسؤولاً عن أبي مصعب الزرقاوي شخصيّاً قبل سطوع نجم هذا الأخير في العراق, وبروزه ” أميراً للقاعدة في بلاد الرافدين “.
إلا أنه خرج في شهر كانون الأول 2011, قاتل مع جبهة النصرة في سوريا بعد شهرٍ واحدٍ من خروجه من المعتقل: أي في شهر كانون الثاني 2012.
• بهاء الباش: فلسطينيٌّ سوريٌّ, ظهر بعد آخر اعتقالٍ له على قناة المنار لمدة خمسين دقيقة, واعترف بأنه كان قائداً لغرفة العمليات في جبهة النصرة.
• محمد حيدر عادل الزمار– أبو عادل: درس الهندسة في ألمانيا, ويحمل الجنسيّتين الألمانية والسورية, وكان الزمار مقرباً ومرافقاً شخصيّاً لأسامة بن لادن, وقاتل في الشيشان وفي أفغانستان. وفي عام 2000 أصبح أميراً لخلية هامبورغ التي نفّذ أعضاؤها هجمات الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة. وبعد أن صار مراقباً ومتابعاً بشدةٍ من قبل الاستخبارات الأمريكية والألمانية أثناء وجوده في ألمانيا.. سافر إلى باكستان وأفغانستان, قبل أن يعتقل في المغرب على يد المخابرات المركزيّة الأميركيّة – CIA- , وتمَّ تسليمه على أثر ذلك إلى المخابرات السوريّة, باعتباره يحمل الجنسيّة السوريّة. أمضى سجنه في زنزاناتٍ منفردةٍ منذ شهر شباط 2002 وحتى شهر تشرين الأول 2006, حيث نقل إلى صيدنايا, وكان من الأساسيّين في العصيان الذي حصل في السجن, وحكم على أثره بالسجن المؤبّد. اختفت أخباره لاحقاً وثمة شكوكٌ غير مؤكدةٍ بأن السلطات السورية قد أطلقت سراحه.
يؤكد دياب سرية كلام ماهر إسبر, ويقول متحدثاً عن الجهاديّين داخل سجن صيدنايا:
” إن قسماً منهم, مثل نديم بالوش, كان عميلاً للنظام بشكلٍ واضح, وبالوش كان بمنزلة العين الساهرة للنظام داخل السجن, فيما كان آخرون يقضون سجنهم مقتنعين فعلاً بالمبادئ السلفيّة الإسلامية. لقد كان الجهاديّون والسلفيّون أكثريّةً ساحقةً في مواجهتنا داخل السجن, وقد قارب عددهم نحو 1200 جهاديٍّ. وعندما بدأت ثورات الربيع العربي بدا واضحاً لنا بأن هنالك تسريعاً للمحاكمات بحقّ الإسلاميّين, وخرج قسمٌ كبيرٌ من هؤلاء بإخلاء سبيل. النظام كان بحاجةٍ إلى غطاءٍ قانونيٍّ لذلك, فقام بإلغاء محكمة أمن الدولة العليا في سوريا التي لا تحتوي على قراراتٍ بالعفو عن السجين لربع المدة, ولا بالطعن في أحكامها. هكذا قام النظام بتحويل هؤلاء إلى المحكمة المدنية, وخرج عددٌ كبيرٌ من هؤلاء الذين كانوا يقضون أحكاماً لا تقلّ عن سبع سنواتٍ لأيّ إسلاميٍّ منهم “.
ويكمل سرية:
” بعض هؤلاء أرسلهم النظام ليقاتلوا في العراق ضدَّ القوات الأمريكيّة, وبعد عودتهم قام باعتقالهم فوراً. وعندما أصبح لبنان يشكل أزمةً حقيقيّةً للنظام السوري, قام النظام بإخراج نحو 150 معتقلاً جهاديّاً إسلاميّاً من سجن صيدنايا, وأرسلهم إلى أفرعٍ أمنيّةٍ خاصّة, ليعود منهم نحو 70 شخصاً رفض معظمهم الذهاب إلى لبنان لأنه وبحسبهم, ليس أرضاً للجهاد كالعراق.. بينما أُرسِل الباقون إلى مخيم نهر البارد في لبنان, ومنهم زعيم تنظيم فتح الإسلام – شاكر العبسي – , وهؤلاء تدربوا في معسكراتٍ خاصّة تابعة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين – القيادة العامّة, مثل معسكر دير العشاير وغيره, وبعد اندلاع أحداث مخيم نهر البارد في لبنان, صرنا نسمع عبر الراديو أسماء لقتلى من فتح الإسلام داخل المخيم, كانوا معنا في السجن قبل خروجهم إلى الأفرع الأمنية. من هؤلاء مثلاً نذكر: سمير أبو شعر وصدام ديب “.
ثمّة معتقلون آخرون أيضاً, صاروا وجوهاً فاعلةً وراسمة للجهاد على الأرض السورية, كانوا في سجن صيدنايا أيضاً, مثل:
• زهران علوش: سلفيٌّ جهاديّ سوريّ, اعتقل عام 2009 وهو ممن شاركوا أيضاً في الجهاد في العراق, وقد شكل مع ابن عمه – إسلام علوش – ما عرف مؤخراً باسم جيش الإسلام. وهو يدعو إلى تكفير كلِّ الطوائف في سوريا بمن فيهم السنّة المعتدلون, وإلى إقامة دولة الخلافة على أساس القرآن والسنّة “الصحيحة”.
• أحمد عيسى الشيخ: سلفيٌّ جهاديّ سوريّ, اعتقل عام 2006, وهو يقود اليوم لواء صقور الشام. وهو لواءٌ قام بعد أسابيعَ قليلةٍ من تأسيسه بإسقاط شعار الجيش الحرّ من الفيديوهات التي يبثها اللواء. وفي 27 تموز 2012 ألقى أحمد عيسى الشيخ – أبو عيسى – خطبة يحثُّ فيها جمهوره على ” نشر السلوك الإسلاميّ الصحيح “. وتنشر الصفحة الرسميّة للواء فيديوهاتٍ وموادَّ تعتبر أن الوحدة الوطنيّة بين السنّة والعلويّين والمسيحيّين هي ” محظورةٌ بشكلٍ مطلقٍ بموجب الشريعة الإسلاميّة, وفقاً لمادةٍ وفكرةٍ سلفيّةٍ تدعى ” الولاء والبراءة “. [ref] راجع خطبة 27-7-2012 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. [/ref]
• حسان العبود: سلفيٌّ جهاديّ سوريّ, اعتقل عام 2005, وهو يقود اليوم كتائب أحرار الشام. وتقول الكتائب إن هدفها هو ” استبدال نظام الأسد بدولةٍ إسلاميّة ” [ref] للتفاصيل راجع فيديو عن كتائب أحرار الشام . [/ref].
يحمل كلٌّ من علوش والشيخ والعبود فكراً جهاديّاً تكفيريّاً, يكفّر الجميع بمن فيهم تنظيم القاعدة العالمي, ويتهمه بالتهاون في تطبيق مبادئ الشريعة الإسلاميّة, وهم يعملون اليوم كقادة للفصائل العسكريّة المذكورة خارج أيّ إطارٍ للجيش الحر, والتنسيق بينهم وبين الجيش الحر يكون ضئيلاً وفي حالاتٍ نادرةٍ جداً.
يقول ماهر إسبر: ” هؤلاء الثلاثة ومعهم معظم قادة النصرة وداعش ولواء التوحيد وألوية شهداء سوريا, كانوا في سجن صيدنايا وأخرجهم النظام قبل انتهاء محكوميّاتهم, وهم يسيطرون على 80% من المجموعات المقاتلة على الأرض. فيما يبدو وجود أشخاصٍ مثل فاتح حسون وسليم إدريس وعبد الجبار العكيدي وقاسم سعد الدين، هو مجرّد حضورٍ إعلاميٍّ ورمزيٍّ أكثر من كونه حضوراً فاعلاً على الأرض وفي المعارك العسكريّة التي تجري بين مختلف الأطراف وبين النظام أو مع أطرافٍ أخرى”.
على سبيل الخاتمة
ثمة بؤرٌ سلفيّةٌ جهاديّة أنتجها النظام بشكلٍ مباشر, وأخرى أنتجها بشكلٍ غير مباشر, وأخرى خلقت ذاتيّاً في مسار الثورة ضدَّ النظام وعلى أيدٍ سوريّةٍ أو غير سورية معارضة للنظام. إن أكثر ما يلفت الانتباه في هذا المشهد هو الدور الوظيفيّ للنظام السوريّ في هذا الموضوع, عبر رعايته للإسلام المدجّن, الإسلام الرسمي ورجالاته, وجعل خطابهم الفقهيّ والدعويّ يصبُّ في خدمة ديمومته وسياساته في المنطقة, على ما رأينا من مثال الشيخ البوطي, وأيضاً, استشعار هذا النظام ضرورة الالتفاف على الثورة ومطالبها عبر إطلاقه نواة القاعدة والجهاد العالميّ على الساحة السوريّة لتفعل فعلها بالسوريّين, على ما رأينا في شهادة أحد الشهود العيان في سجن صيدنايا, ماهر إسبر.
قطعاً, تبدو إعادة الاعتبار للوطنيّة السوريّة اليوم صعبة جداً, وسط كل هذا الحضور الجهادي العابر لفكرة الوطن والمتعالي عليها, لكنها ليست مستحيلةً بطبيعة الحال. تتجه الأنظار إلى المستقبل حيث سيتبدّى لاحقاً وللجميع.. ما هو عابرٌ وما هو جذريٌّ في ثقافة المجتمع السوريّ القديمة والمتكوّنة بعد 15 آذار 2011. سيكون لدينا ما سيسقط ويتهافت مع أول استحقاقٍ سياسيٍّ محتمل, وسنصطدم كسوريّين بما لن يكون الخلاص منه سهلاً.
الأمر متروكٌ للقادم الذي نتمنى ألا يطولَ انتظاره, كائناً ما كان هذا القادم.
التحميل
للاطلاع على الورقة بصيغة PDF وتحميلها:
[gview file=”http://drsc-sy.org//wp-content/uploads/2013/12/military-islam.pdf”]