مقدّمة في مناهج البحث العلميّ الاجتماعيّ
كتاب إلكتروني، متوفر للتحميل.
مقدمة
نشهد في هذا القرن تتابع خطوات البشريّة صعودًا في عصر المعرفة، عبر الانتقال من اعتماد العلم إلى نقده من داخله. وجرى، ويجري، ذلك عبر التمكّن من قدرةٍ فائقةٍ على النقد، ومراجعة ما كنّا نعتبره يقينيًّا ونهائيًّا، واستبعاد ما يثبت فشله، وصولًا إلى اعتماد الامتحان الدائم لكلِّ معرفتنا.
وهي العمليّة التي نتجت من الاكتشافات العلميّة، ومنها ثورة المعلومات التي أنتجت قدرةً هائلةً على تخزين البيانات، وتحليلها، ونقلها، وتبادلها. فإذا كانت المراحل الأولى من الاكتشافات العلميّة أدّت إلى تنامي قدرة البشريّة على التأثير بالبيئة المحيطة بها، إلى حدِّ القدرة الواسعة على التغيير بها، وهو ما لم يكن جيّدًا طوال الوقت، إضافةً إلى ما يلازم هذه التغيّرات من تزايد التعقيد الذي يختبره الباحثون على الأصعدة كلّها، فإنّ ثورة الاتّصالات قدّمت المزيد من الأدوات لفعل ذلك، والأهمّ أنّها أشركت عددًا هائلًا من الناس في عمليّة المعرفة، بمستوياتها المتعدّدة، من خارج المؤسّسات التقليديّة، كأفرادٍ ميّالين بشدّةٍ للتحرّر من القيود، ومنفتحين على الآراء؛ الأمر الذي عنى الكثير، ومنه إضعاف “الكهنوت العلميّ”، لمصلحة “التعلّم الذاتيّ” الأقلّ تقيّدًا بالمسبقات والأكثر جرأةً على الشكّ، بما فيه الشكُّ بمحتويات الكتاب بما هو مؤسّسة. والشكُّ هو روح الاكتشاف، وهو ما يطرح تحدّياتٍ عديدةً، ويفتح آفاقًا جديدةً للجميع، بمن فيهم “المجتمع العلميّ” التقليديّ.
وفي ظلِّ هذا العصر الجديد، تشهد منطقة الشرق الأوسط حروبًا يرجّح وصفها بالظاهرة المعقّدة؛ إن كان ذلك على المستوى الأخلاقيِّ، أو السياسيّ، أو الجيوسياسيّ، على المستوى المحليّ، أو الإقليميّ، أو العالميّ. وهذا ما يزيد الحاجة إلى البحث العلميِّ بأنواعه، من أجل تفسير ما حصل ويحصل، أو لدراسة أثره على حياة الناس بكلِّ الأصعدة، أو للمشاركة باقتراح سبل إعادة البناء.
ونتيجة تجربة “مركز دراسات الجمهوريّة الديمقراطيّة” و”مركز حرمون” في العمل البحثيِّ، ومن خلال خبرة مرجعيّتهما العلميّة الأكاديميّة بالوسط الأكاديميِّ السوريِّ قبل الأزمة السوريّة، وإدراكهما للتراجع الكبير في الجودة الأكاديميّة خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، وتقديرهما لثورة المعلومات والاتّصالات، التي كان من مفاعيلها نشوء مجتمعاتٍ على شبكة “الإنترنت” قائمةٍ على تبادل المعرفة وعلى “التعلّم الذاتيّ“، فإنّهما خلصا إلى أنّ دعم الباحثين المستقلّين، وعمليّة “التعلّم الذاتيّ”، والباحثين ضمن المراكز البحثيّة، بمناهج البحث العلميّ، هو حاجةٌ ملحّةٌ، يؤدّي تحقيقها إلى زيادة فعاليّة الإنتاج البحثيّ العلميّ، وما يترتّب عليه من زيادةٍ في كفاءة السوريّين بقطاعاتهم المختلفة على بناء الجمهوريّة الديموقراطيّة التعدّديّة؛ وليقوما بذلك عمد المركزان إلى إنشاء معهد الجمهوريّة لمنهجيّات البحث العلميّ الذي بدوره وضع ضمن خطّته إنتاج سلسلة كتبٍ لتحقيق هذا الغرض، إضافةً إلى إقامة دوراتٍ تدريبيّةٍ للباحثين الراغبين، في سياق إنتاجه مصدر معلوماتٍ مفتوحٍ حول المنهجيّة العلميّة في البحث الاجتماعيّ.