أوقفوا الحربَ
منذ أن خرج المدنيّون من بيوتهم في أرجاء سورية صارت عودتهم قضيّةً ملحّةً، إلّا أنّ خطابَ الحرب أهملهم لزمنٍ طويل، على عادته، فللمتحاربين أولويّاتهم المختلفة التي تزداد انفصالًا عن مصالح عامّة الناس كلّما أوغلوا في الحرب (وبعضهم منفصلٌ أصلًا لأسبابٍ سلطويّةٍ أو أيديولوجيّة)، وإن كان منهم من يبقى يذكر بعضها في سياق الاستخدام السياسيّ.
ومنذ ذلك الحين، كان من اللافت تقديم السلطات الاستبداديّة المتنازعة تهجير “الآخر” المختلف على أنّه مطلبٌ شعبيٌّ، وكان من الواضح أنّه أحد أساليبها في سياق دفعها باتّجاه تبلورٍ أهليٍّ ضدّيٍّ (طائفيّ، طبقيّ، مناطقيّ…). وبهذا الخصوص كثيرةٌ هي الإثباتات على أنّ أجهزة النظام الأمنيّ الدعائيّة، ومنها “جيشه” الدعويّ المنظّم على وسائل التواصل الاجتماعيّة، قامت مرارًا بالتحريض على تهجير من اتّهمتهم بأنّهم “البيئات الحاضنة للمعارضة”، وأحيانًا للإرهاب. ومثل ذلك يمكن أن يقال، مع ملاحظة الفرق بالحجم، عن الجهاديّين وجمهورهم في ما يتعلّق بأهالي مدينتي “كفريا” و”الفوعة” الشيعيّتين، وبشكلٍ عامٍّ باتّجاه “العلويّين”.
وإذ رذل المتقاتلون المعارضة الديمقراطيّة السلميّة، ومنها أوساطٌ من المجتمع المدنيّ، لرفعها شعار “أوقفوا الحرب”، فإنّ بقاءها مصرّةً على مطلبها هذا ساهم في إبقاء المصلحة الرئيسة للمدنيّين حاضرةً في فضاء السياسة الدوليّة في ما يتعلّق بسورية، وإن كانت حواملها المنظّمة سوريًّا ضعفت بشدّةٍ تحت ضغط المتحاربين.
ولاشتداد ساعد القوى الديمقراطيّة الداعية للوقف الفوريّ للحرب، وعودة اللاجئين والنازحين، شروطٌ منها إشاعة فهمٍ مختلفٍ للحرب في سورية عن ذلك الذي أشاعته أطراف الصراع، وجيَّش كلٌّ منها جمهوره على أساسه. فتحرّرُ السوريّين من سطوة المتحاربين على وعيهم ضروريٌّ لتحرّرهم من الحرب وممّا سيتبعها من بنى وآليّاتٍ طائفيّةٍ وسلطويّةٍ سيمرّرها هؤلاء بدعوى حماية جمهورهم إن استمرّت سطوتهم، وإن بقيت التسوية تعني تقاسمهم المنافع.
ولمؤسّسات المجتمع المدنيّ دورٌ محوريٌّ على هذا الصعيد، وقيامها بدورها، واستجابتها لحاجات هذا الدور، هو بالنسبة إليها تلبيةٌ للشرط الرئيس لوجودها، وإعادة إنتاج هذا الوجود، ولاسيّما أنّ هذا الدور، في الظرف السوريّ الحاليّ، متمحورٌ حول إعادة بناء الدولة، على أن تكون ديمقراطيّةً، وهو الشرط الرئيس لوجود هذا المجتمع.
إلّا أنّ تطوّر المجتمع المدنيّ السوريّ كان متأثّرًا بالأطوار المختلفة التي مرَّ بها الصراع، ومثقلًا بالكثير من المشكلات الناتجة من الظرف الكارثيّ الذي دفعت سلطة الأسد المثار عليها البلد إليه، ومن عوامل قصورٍ سابقةٍ على الأزمة الراهنة لم تسمح له ظروف الصراع الجاري بتجاوزها. وبعض هذه المشكلات أصابته بتشوّهاتٍ تهدّد بأن تكون مستدامة، ومنها نموّه بالتوازي مع إضعافٍ مطّردٍ للدولة السوريّة في الطورين الأخيرين للصراع الراهن، بدلًا من أن يرافق عمليّة دمقرطتها. كما أنّ الكثير من هذه المؤسّسات، والفاعليّات المدنيّة، أصبحت خارج سورية، عداك عمّا تأسّس خارجها.
ونجد اليوم أنّ إدراك المجتمع المدنيّ السوريّ لهذه المعضلة أصبح ضروريًّا لتعافيه، بل شرطًا أساسيًّا لبقائه، حيث يجب وضعها ضمن إستراتيجيّاته كتحدٍّ، ووضع تصوّرٍ لسبل تجاوزها؛ وهي عمليّةٌ مركّبةٌ تتّجه باتّجاه الخارج (سلطات- ومجتمع سوريّ- ومجتمع دوليّ) وباتّجاه الداخل (بنية المجتمع المدنيّ- ووعيه)، بغية الوصول إلى أن تصبح أهدافها (المتمحورة حول مطلب وقف الحرب الفوريّ، وبناء الدولة الديمقراطيّة)، ووسائل عملها المدنيّة السلميّة لتحقيق هذه الأهداف، عناصرَ إجماعٍ عند أغلب مؤسّسات المجتمع المدنيّ السوريّة. الأمر الذي إن حصل سيؤدّي بكلٍّ من هذه المؤسّسات إلى ربط أعمالها بهذه الأهداف بحيث تمارس ضغطًا متواصلًا للوصول إليها، في الوقت الذي تعمل على التثقيف بها بحيث تصبح أفكارها بمتناول أوسع شرائح السوريّين؛ مع ملاحظة تطلّبها لآليّات التشبيك والتحالف التي تعمل على تكريس الإجماع الوطنيّ الديمقراطيّ نظريًّا وعمليًّا، وأن لا غنى عنهما حتى تكون المؤسّسة المدنيّة أكثر من “منظّمةٍ غير مموّلة”، أو “مجموعةٍ مطلبيّة”، في الواقع السوريّ الخاصّ، أي حتى تكون جزءًا من مجتمعٍ مدنيٍّ. وهي الملاحظة التي تظهر أهمّيّتها في مواجهة معضلة عمل المجتمع المدنيّ السوريّ في غياب الدولة السوريّة في معظم الأحيان، الأمر الذي يزيد من أهميّة التشبيك والتحالف بما هما عاملا وحدةٍ في مواجهة التفكّك، ويؤكّد أهميّة أن يكونا هدفًا ووسيلةً في الوقت نفسه في الإستراتيجيّة الخاصّة لكلِّ مؤسّسةٍ، كما في الإستراتيجيّة العامّة.
وعبر هذا العمل يمكن للمجتمع المدنيّ مواجهة إعادة إنتاج روسيا وإيران لنظامٍ سوريٍّ استبداديّ بعناصر القهر نفسها التي كانت في النظام القديم، وهي العناصر المستمرّة عبر سلطة الأسد، وفي الوقت نفسه مواجهة سلطات الأمر الواقع المتناثرة في أرجاء سورية، ودعم ما تبقّى من النويّات، والمؤسّسات، الديمقراطيّة التي تعمل لوقف الحرب ومن أجل الديمقراطيّة، عبر سبلٍ مدنيّةٍ سلميّةٍ.