مدير المركز في ندوة لقاء القوى الوطنية الديمقراطية السورية بعنوان: الفلسطينيون السوريون والثورة السورية (نص وصوت)
أدار الندوة: أ.د ريمون معلولي
مساء الخير. وأشكر الدعوة وأشكر حضوركم.
أعتقد أن موقف الأغلبية الفلسطينية فاجأ النظام السوري في مطلع الثورة، وفاجأ القوى السياسية الفلسطينية، بل أعتقد أنه فاجأهم هم أنفسهم. وبكل تأكيد فاجأنا نحن الذين كنا في المعارضة السورية من فلسطينيين سوريين، وكنا ندعوهم للانخراط في الحركة المعارضة المطلبية والسياسية. أسعى، خلال الوقت المتاح، لإطلاعكم على جانب من مقاربتي لهذا الشأن التي عبرت عنها خلال السنوات الماضية.
ملاحظة افتتاحية: لكن ما سأقوله هو قراءة سياسية. لا أمثل هنا دور الباحث الموضوعي، وإن كنت حرصت على أن أستنتجها قدر استطاعتي عبر منهجية علمية. وهو ما اخترته لاعتقادي بالحاجة إلى القول السياسي بموضوع كثير المحرمات. ولأنه قول سياسي فهو ككل قول سياسي يمكن رد روايته بروايات أخرى، فالآلية التي تقوم على أخذ عناصر من المشهد وربطها وتقديمها على أنها الواقع يمكن استخدامها لخدمة الرأي وضده، فدوماً هناك عناصر ودلائل إن عزلت تنصر وجهات نظر سياسية متباينة. لذلك يعتمد القول السياسي الديمقراطي على العلاقة بينه وبين مستمع عارف نقدي، أي الفرد الفضولي الباحث في التفاصيل الذي لا يتوقف عن تطوير قدرته النقدية. وهذا يعني أن كلامي سيكون أكثر مقاربة للواقع بمقدار ما يتكرر دخوله في امتحان التفاعل مع هذا النمط من المتفاعلين ويصوب المرة تلو الأخرى، ولكنه أبداً لن يصل للتطابق مع الواقع، وبالتالي لن يحتويه، لأنها غاية لا تدرك.
أمران لا بد أن نعرفهما لنبني عليهما تحليلنا
- الأمر الأول هو الإحصاء والمخيمات
حسب الموقع الرسمي لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى، المسماة اختصاراً ” الأونروا”، هناك في سوريا أكثر من 570 ألف لاجئ فلسطيني يعيشون في تسعة مخيمات رسمية وثلاثة غير رسمية وفي المدن الرئيسة السورية. وهؤلاء هم المسجلون الذين منهم عشرات الآلاف يعيشون فعلياً في الخليج العربي وأرجاء العالم ولكن نفوسهم وتعدادهم في سوريا.
ومعظم اللاجئين الفلسطينيين هم من الذين هجّروا من فلسطين إلى سوريا عام 1948، وتحديداً من الأجزاء الشمالية من فلسطين، وتحديداً من صفد ومدن حيفا ويافا. ومنهم من هجر مرتين مرة إلى الجولان ومرة أخرى منها، مع النازحين السوريين، إلى أجزاء أخرى من سورية، عندما تم احتلال مرتفعات الجولان من قبل إسرائيل. ومنهم بضعة آلاف فروا إلى سورية من أتون حرب عام 1982 في لبنان. وكلهم لاجئون لأول مرة عام 1948 فالأونروا لا تحسب اللاجئين الفلسطينيين بعد ذلك في نطاق حمايتها. ولذلك لا تحصي المهجرين في حرب عام 1967، ولا القادمين مع الفصائل الفلسطينية من الضفة الغربية أو غزة أو الأردن بعد ذلك. وتختلف تقديرات عددهم. وتوفر الأونروا جزءاً معتبراً من خدمات الصحة والتعليم والإغاثة والخدمات الاجتماعية. مع العلم أنه يحظى اللاجئون الفلسطينيون في سوريا على نفس الحقوق والامتيازات الممنوحة للمواطنين السوريين، باستثناءات منها عدم حصولهم على المواطنة (وكونه لا يوجد مواطنة فعلاً في سوريا فهم لم يشعروا بخسارة شيء) وقصور في حق التملك. وتقدم الأونروا الخدمات في 12 مخيماً في سوريا. وغني عن القول إن الأونروا لا تدير أو تراقب الأمن في هذه المخيمات، إذ تقع المسؤولية في ذلك على عاتق السلطات السورية.
وهذه المخيمات هي:
مخيم اللاذقية (مخيم غير رسمي)
مخيم النيرب
مخيم اليرموك (مخيم غير رسمي)
مخيم جرمانا
مخيم حماة
مخيم حمص
مخيم خان الشيح
مخيم خان دنون
مخيم درعا
مخيم سبينة
مخيم عين التل (مخيم غير رسمي)
مخيم قبر الست
- نتجت الوطنية الفلسطينية كحاجة نضالية حينما لم يكن هناك من إمكانية أن تقوم القومية العربية، أو السورية، بتحرير فلسطين. وهو حل دعمه النظام العربي، القوميون منه لعجزهم، والتقليديون للتخلص من عبء فلسطين عبر تحميله للفلسطينيين وحدهم. هذا أنتج “الخصوصية الفلسطينية”، التي كانت حلاً لمعظم النظام العربي ومشكلة إضافية للدولة السورية وللفلسطينيين السوريين:
- المشكلة للدولة السورية: أولاً لأن فلسطين المحتلة جزء من سوريا، وهي نقص/جرح آخر يحبط تشكل وطنيتها، كما لواء الإسكندرون نقص/جرح، وكما لاحقاً ستكون هضبة الجولان نقص/جرح. (وهي نواقص هربت منها سوريا لخيالات قومية عربية، كهروب اليائس من واقعه للحلم)، وثانياً حتى لو أقرّت سوريا بخسارتها فإنها تبقى جزءاً من إقليمها وبمثابة السكين في خاصرتها. (وهو ما يحيل إلى فهم معنى أن يكون هناك دولة سورية، واحتياجات هذه الدولة ومصالحها في إقليمها، وهو موضوع يطول الحديث فيه).
- المشكلة للفلسطينيين السوريين: تناقض آخر نتج عن الوطنية الفلسطينية كان عند اللاجئين الفلسطينيين في سوريا. ففي أماكن أخرى كانوا يعرفون أنفسهم كغرباء كما يعرفهم المجتمع المحيط، بينما في سوريا كان معنى غربتهم مراً، فكيف يمكن أن يكونوا غريبين في مكان اعتادوا أن يعتبروه بلادهم. وكان يمكن لهم أن يدركوا أن غربتهم ليست مبنية على أساس أنهم يسكنون في النطاق الجغرافي لأمة أخرى إنما هي غربة ناتجة عن تعريف محلي ما دون وطني للمجتمعات المضيفة، فهم غرباء في دمشق كما سيكون حال الحلبيين لو نزحوا إلى دمشق، والدمشقيين لو نزحوا إلى حلب، والحل لهذه الغربة هي في نشوء “الأمة” التي تضعف الهويات المحلية، وهذا ما أتيح للمتقدمين من صفوفهم فعله عبر القوميين من عرب وسوريين، ولكن الوطنية الفلسطينية قطعت الطريق الجماعي على الفلسطينيين السوريين في هذا الاتجاه، ودفعتهم إلى طريق الخصوصية. وبالطبع بقي في صفوفهم قوميون، ويساريون راديكاليون، يعاكسون اتجاهها، ولكن المسار العام لم يكن في صالحهم.
ولكن إن كان للسياسة منطقها، وتأثيرها، فإن للواقع عناده. فكما انهارت تلك الوطنية السورية التي صنعها النظام وحماها والتي كانت تعني الطاعة له ما إن تفسخ النظام وثارت الناس عليه، وهو ما بيّن أن تخيلاً آخر للوطنية السورية كان يجول في خاطر السوريين تحت سلطة الاستبداد السوري ويتكرس في ضميرهم، فكذلك الثورة كشفت عما كان يجول في خاطر الفلسطينيين السوريين، ويكرس في ضميرهم، عن سوريتهم. وكحال السوريين كلهم كان ما اكتشفوه عن أنفسهم مفاجئاً حتى لهم، فحتى الثورة كان هذا الخيال سراً لا يباح به فزعاً من السلطة، وبحالة الفلسطيني السوري كان خوفاً أيضاً من اتهامات القوى السياسية الفلسطينية بالتخلي عن فلسطين، حيث كانت “الخصوصية الفلسطينية” قد تحولت مع الوقت إلى أكثر من خطاب سياسي، وأصبحت إرهاباً فكرياً ومعنوياً ومادياً أحياناً، وكانت تقية أيضاً لعامة الفلسطينيين السوريين تساوي أن تقول “أنا ما دخلني” لرجل الأمن إن سألك عن رأيك بشأن من الشؤون.
الثورة/ الانكشاف
كشفت الثورة إذاً عن عناصر كان يمكن الانتباه لها قبل الثورة وعناصر وتغيرات مفاجئة ومن هذا وذاك كشفت عن:
- “الصراع الجيلي” الذي أظنه يكثف التناقضات الرئيسة الثلاثة بين الحالة السياسية الفلسطينية في سورية وبين “المجتمع الفلسطيني” فيها، وهي: تعطيل المشاركة السياسية؛ حجز التطور السياسي المتلائم مع الوعي المستجد للذات عند جيل الشباب؛ رهن الناس لمصالح القلة الحاكمة. ففي مخيم اليرموك يسمّي كثيرون من الشباب أنفسهم، وبفخر، “فلسطينيين سوريين”، مفترضين أن التصادم الذي حدث بينهم وبين القوى الفلسطينية (“انتفاضة اليرموك” في 6 / 6 /2011)، هو انكشاف انفجاري للتحولات التي كانت تجري بصمت على الطرفين. حيث إن ظروف الثورة التي فسحت المجال أمام المجتمعات في سورية للتعبير عن نفسها بشكل غير مألوف، كشفت، تحت ضغط الحسم الأمني العسكري، عن صراعات كثيرة منها صراع أجيال يتداخل مع صراع الهوية، وهو ما ينطبق على اللاجئين الفلسطينيين الذين عبّر قطاع واسع من الشباب منهم عن رغبة في التصالح بين هويّتيه الفلسطينية والسورية. ولذلك كان من الطبيعي أن يظهر هذا الصراع عبر انحيازين متناقضين، حيث تنحاز الأغلبية بقيادة شبابية إلى مصلحة الثورة وتنحاز القلة بقيادة قيادة تنظيم القيادة العامة وتنظيم حزب البعث إلى النظام.
- ومن تعبيرات نضج الوعي الثوري، نمو وعي حقوقي ينظر إلى الحقوق على أنها مركبة ومتعددة وليست أحادية، وأنه منها حق حيازتها حقوق المواطنة الكاملة حيث يعيشون من دون أن يخسروا حقهم في فلسطين، أو في المشاركة في النضال التحرري الفلسطيني بما لا يتعارض معها، لأن حقاً ما لا يلغي حقاً آخر
- وكشفت الثورة كيف أن قيادة قوى التحالف الفلسطيني (قوى دمشق) كانت قد اندمجت في النظام السوري من بوابة وظيفة “الورقة الفلسطينية”، وفقدت منذ زمن أي استقلالية تمكّنها من حماية مَن تدّعي تمثيلهم. وهو ما وصل إلى مصاهرات ضمن “طبقة السلطة” منها زواج طلال ناجي (وهو العقل المخطط وأحد ممثلي السلطة السورية في وسط الفصائل الفلسطينية) من عمة أسماء فواز الأخرس التي صارت زوجة بشار الأسد وأورثت عائلتها دور آل مخلوف في دائرة السلطة. وهو الاندماج الذي ينطبق على جيش التحرير الفلسطيني الذي فقدت منظمة التحرير أي تأثير عليه منذ زمن طويل، وتحول إلى قطعات من الجيش السوري.
- وكما كل التباشير التي أطلقتها الثورة السورية سُحقت جرّاء تطبيق سلطة الأسد منهج دفع المناطق الثائرة عليه إلى التسلح والحصار والقصف والفوضى لتُقوّض الثورة المدنية السلمية، ومن ذلك أنها قامت بتسليح ميليشيات بعناوين فلسطينية رغماً عن إرادة الأغلبية الشعبية الفلسطينية بل ورغماً عن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. ليكون أبرزها، والمؤثر من بينها، أدوات ميليشياويّة بلا إرادة ولا تاريخ سياسيَّين (ممثّلة بـ”لواء القدس”، ولدرجة أقل عسكرياً ولكن فاعلة أمنياً ميليشيا فلسطين حرة)، ولتكون منصاعة من دون حدود للمهمّات التي توكل إليها مهما كانت دمويّةً، ومن دون اهتمامٍ بأثرها على الفلسطينيّين ومستقبلهم ولا على قضيّتهم الوطنيّة. وفي المحصلة حتى الآن نتج عن هذا تدمير سلطة الأسد وحلفائها مخيمات اليرموك بشكل كامل، وحندرات وسبينة بشكل شبه كامل، ومخيم خان الشيح بشكل جزئي، وكذلك مخيم درعا، ونتج عن ذلك كله تعقيدات شديدة بسبب تشظي المجتمع مثل حالة مخيم اليرموك الذي لم يعد فيه من نحو 200 ألف فلسطيني إلاّ بضعة آلاف، بينما توزّع البقية بين لجوء جديد خارج سورية أو نزوح فيها، وحالة مخيمات درعا وحندرات وسبينة، وحدث الأمر ذاته بنسب أقل، في مخيمات أُخرى. واعتقلت السلطات السورية 1748 فلسطينياً لا يزال مصيرهم مجهولاً، وقتلت تحت التعذيب 585 فلسطينياً، في حين بلغ عدد الفلسطينيين السوريين الذين قضوا جرّاء الحرب في سورية 3940 ضحية. وقد قدّرت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا) عدد اللاجئين من الفلسطينيين السوريين إلى دول العالم جرّاء الحرب في سورية بـ 120 ألف لاجئ (بينما نميل إلى تقدير عددهم بأكثر من 146 ألف لاجئ).
توصيف تفصيل رأي عامة الفلسطينيين السوريين بما حدث بعدها في سورية، وتفصيل ما باتوا يريدونه جرّاء تداعي الأحداث، لم يعد بالسهولة نفسها منذ نهاية سنة 2012 حين انتقل الصراع في سورية وعليها، إلى طور حرب شاملة أدخل النظام والمعارضة المخيمات الفلسطينية في أتونها.
أهم النقاط في الرد على الأسئلة :
- الوطنية الفلسطينية هي منتج احتلال؛ حيث شكّلت نضالات الفلسطينيين ضدّ الاحتلال ورموز هذا النضال وأمثولاته، وطنيّة متخيلة سكنت مخيالهم الجمعي من دون أرض لكن بجسم سياسيّ. وفي الوقت نفسه هي منتج تخلّي، فقد دفع التخلّي القومي والإسلاميّ الفلسطينيين باتجاه التيار الوطني.
- الفلسطينيون السوريون هم جماعة ذات تعريف خاص، والمعارضة السورية معنيّة ببناء تصور عنهم كونهم سكّان سورية، وعليها التعامل مع تصورهم عن أنفسهم والاهتمام بهذا التصور.
- لا يستطيع السوريون فكّ اشتباكهم بقضايا المنطقة، ولاسيّما أنّ أغلب الصراعات التي في محيط سورية صار لها امتدادات داخلها. وهو ما يحتّم على المعارضة السورية طرح رؤيتها ومواقفها تجاه الصراعات في المنطقة، ولاسيّما رؤيتها تجاه إسرائيل بوضعها الراهن والتي تحتل أراضي سورية.
- مواقف الفصائل الفلسطينية تدرّجت مع الأطوار التي مرّت فيها الثورة السورية، فكانت معقدة ومتنوعة؛ فالثورة السوريّة أربكت جميع الفصائل وأحرجتها.
- مع تغيير الظروف وانتقال الثورة من طورها السلمي إلى طورها المسلح، وسوء سلوك المعارضة السورية المهيمنة وعدم وعيها لتصوّر الفلسطينيين عن أنفسهم، وعدم تبلور تصور لمستقبل العلاقة بإسرائيل، إضافة إلى دفع بعض أطراف المعارضة إلى توريط المخيمات بالسلاح، وغيرها من مشكلات، أحرج من يميل إلى الثورة السورية من الفلسطينيين.
- بعض الفصائل الفلسطينية كانوا قبل الثورة قد اندمجوا بالنظام السوري، بل إن طلال ناجي اندمج بسلطة الأسد. وهؤلاء عادوا الثورة السورية منذ اليوم الأول.
- بداية الثورة رفضت قيادة المنظمة، وحركة فتح، توريط الفلسطينيين السوريين، فأصدرت بيانات شجبت تنظيم القيادة العامة”، إلا أنه بعد التغيرات الكبيرة التي حصلت، وبعد القطيعة بين سلطة الأسد وحركة حماس، أخذت موقفاً انتهازيّاً للعودة بشكل واسع إلى دمشق وتثبيت سلطتها على الفلسطينيين السوريين.
- الجبهة الشعبية لم تعد ما كانت عليه، فلا هي قومية ولا يسارية، ولم تدافع عن النظام السوري بقدر ما دافعت عن صورتها فيه المتمثلة بخطاب الممانعة والمقاومة وإن علمت كذبه